التلفزيون

قبل عقدين من الزمن كان معدل جلوس الفرد امام شاشة التلفزيون لا يزيد على بضع ساعات في اليوم يقضيها في الأغلب مع بقية افراد الأسرة لمشاهدة نشرة اخبار ومسلسل هادف وفيلم اسبوعي للسهرة، اضافة الى المواد التي يشاهدها الصغار قبل المغرب، والتي كانت تراعى فيها جوانب التربية السليمة والتوعية والتثقيف واحترام العادات والتقاليد. فقد كانت محطات التلفزيون تعمل بنظام البث الارضي، وكانت فترة البث تبدأ بعد الظهر وتنتهي عند منتصف الليل، مما يتيح للمرء ان يقرأ أو يكتب قبل ان يأخذ قسطاً كافياً من النوم، ويجعله نشيطاً في دراسته أو عمله في اليوم التالي. أما الآن، وتحديداً منذ حرب الخليج الاولى مطلع التسعينات، فقد تحولت جميع المحطات الارضية الى البث الفضائي المتواصل على مدى 24 ساعة، وتبعاً لذلك زادت المدة التي يقضيها المرء - منعزلاً عن بقية أفراد أسرته احياناً - امام الشاشة وهو يقلب عينيه في ساعة واحدة بين اخبار (معظمها كوارث، حروب، مآسٍ، تقلبات اسعار عملات وأسهم) تؤدي الى التوتر والضغط النفسي، أو مواد موسيقية هابطة او برامج فنية تستنزف قدرته على التفكير الابداعي والاحساس بما يدور حوله، او افلام تتنشر في بعضها الاباحة الى حد يؤدي للانحراف السلوكي. وبسبب تزايد ضغوط الدراسة والعمل ومساحة الوقت المتوافرة، اصبحت مشاهدة التلفزيون من اهم وسائل التسلية (تشغل 70% من وقت الفراغ حسب دراسة اجريت في الولايات المتحدة عام 1999)، وعادة سيئة بلغت حد الادمان الذي يصعب الاقلاع عنه، وهو ما ابعد الناس عن اشياء كثيرة كانت تفيد صحتهم الجسمانية كممارسة الرياضات المختلفة والعقلية ايضا، وبذلك اصبح التلفزيون احد اهم الاعداء الجدد لصحة الانسان. “الصحة والطب” حاولت في التحقيق التالي، رصد الآثار السلبية الناجمة عن طول مدة مشاهدة التلفزيون على صحة الاطفال والكبار من النواحي الجسدية والنفسية والفكرية والغذائية، واستقراء افضل النصائح والارشادات التي ينصح بها الاطباء والخبراء في هذا المجال.
تحقيق: يمامة بدوان
تقول الدكتورة غادة حسن أبو هولي، اخصائية الأمراض الباطنية في مستشفى الزهراء بالشارقة: إن جهاز التلفزيون وجد للتسلية والترفيه، لكنه تحول في بعض الأشكال الى رفيق للمائدة، حيث يُشاهد التلفزيون مع وجبات الطعام، وهو ما يفقد الانسان القدرة على التوازن بين حاجته للغذاء او المتعة منه لملء الفراغ، وهذا يسبب مشكلات صحية جمة، فأكثر الأطعمة التي يتناولها الأفراد وهم يشاهدون البرامج التلفزيونية تحتوي على نسب عالية من السكريات والدهون مثل المكسرات والشوكولاتة والمشروبات الغازية، وبذلك يصاب الفرد بشكل أولي بالسمنة ومن ثم ارتفاع نسبة السكر والكوليسترول في الدم، وهذا ما تؤكده احصاءات حول ارتفاع عدد مرضى السكري في العالم.
وإضافة لذلك فإن إدمان مشاهدة التلفزيون، وقلة الحركة عند تناول الطعام يسببان اضطرابات في الجهاز الهضمي، وزيادة الإصابة بأمراض القلب والذبحات الصدرية وتصلب الشرايين نتيجة قضاء ساعات طويلة من دون ممارسة أي نشاط. واشارت إلى أن نوعية البرامج التي يتابعها الفرد كنشرات الأخبار والبرامج السياسية تسبب الاكتئاب وارتفاع ضغط الدم، حيث يتوجه العديد في هذه الحالة الى تناول الطعام كردة فعل للغضب. وأوضحت الدكتورة ابوهولي أن الجلوس لفترات طويلة في مشاهدة البرامج التلفزيونية او ممارسة ألعاب الكمبيوتر بين 4 - 6 ساعات يومياً وبشكل متواصل يسبب الإصابة بجلطات الأوردة نتيجة قلة جريان الدم في الأوردة. وحذرت من ان السيدات الحوامل واللواتي يتناولن حبوب منع الحمل والذين أصيبوا سابقاً بجلطات الى جانب المدخنين والذين يعانون من ارتفاع نسبة السكر في الدم والسمنة، يكونون أكثر الفئات عرضة للاصابة بجلطات الأوردة. وتضيف ان منظمة الصحة العالمية اظهرت في تقرير سابق لها أن الأمراض السارية كانت وراء 60% من 56 مليون حالة وفاة عام ،2001 حيث إن ارتفاع نسبة الكوليسترول في الدم، وقلة تناول الخضروات والفاكهة والخمول والوزن الزائد من العوامل الرئيسية في زيادة معدل الإصابة بالأمراض غير السارية. كما ذكرت تقارير منظمة الصحة العالمية في جنيف أن شيوع البدانة بين الأطفال مرتبط مباشرة بالساعات التي يقضيها الطفل أمام التلفزيون والكمبيوتر. ففي الولايات المتحدة كشفت نشرة “هيلث انترفيو سورفي” عام 1997 ان أكثر من 50% من البالغين يعانون من الوزن الزائد، وهي نسبة مشابهة للنتائج التي بينها مكتب الاحصاء الاسترالي.
واشارت الدكتورة ابو هولي الى دراسة أجرتها استون البريطانية، أظهرت أن الصور الومضية وأشكالا معينة تظهر على شاشة التلفزيون والعاب الفيديو المصورة والحواسيب، تزيد من خطر اصابة الأطفال بنوبات الصرع، حيث هناك مقاييس تقنية تثير النوبات التشنجية عند الاشخاص الأكثر استعداداً للمرض، كما ان الفئة العمرية بين 7 - 19 عاماً أكثر استعداداً للاصابة بالتشنجات المثارة بصرياً.
تأثير سلبي في المفاصل والعضلات
ويوضح الدكتور عدنان عبدالواحد، اخصائي أمراض المفاصل أن الجلوس لفترات طويلة لمشاهدة التلفزيون أو الانترنت او ممارسة ألعاب الفيديو له مساوىء كثيرة على المفاصل والعضلات، نتيجة بقاء الجسم على وضعية واحدة مما يؤدي الى تعب وإجهاد الاربطة والعضلات وتشنجات حادة في الرقبة والكتفين والظهر، ناهيك عن وجود بعض الوضعيات الخاطئة التي يتخذها الناس عند مشاهدتهم للتلفزيون او تكون هذه الاجهزة مثل الكمبيوتر في مكان غير ملائم وغير مريح للجسم.
وأضاف: هناك سبب مهم قد يغفل عنه الناس وهو مشاهدتهم للتلفزيون وهم في حالة تعب وإجهاد، مما يضطر الشخص الى ان يتمدد على الأريكة او الارض بوضعية غير طبيعية، وفي بعض المرات ينام الشخص وهو جالس مما يؤدي الى تدلي الرقبة ويسبب تشنجات وآلاماً حادة في الرقبة والكتفين، وهذه نلاحظها كثيراً عند المرضى الذين يراجعون اطباء المفاصل والعظام وتحدث بصورة آنية وبسرعة خلال يوم أو أيام، أما على المدى البعيد فإن هناك اضراراً أخرى على المفاصل منها:
- الظهور المبكر لخشونة الفقرات العنقية عند الشباب والفتيات الذين يقضون الساعات الطويلة في مشاهدة التلفزيون او استعمال الكمبيوتر.
- اجهاد اربطة الفقرات القطنية وهذا يظهر على شكل آلام أسفل الظهر.
- تشنجات عضلية حادة او مزمنة في أعلى الظهر أو الكتفين.
- آلام في الساقين (بطة الساق) لعدم تحريك الأطراف السفلى لفترة طويلة خصوصاً عندما تكون القدمان (لا تستند على الارض) في وضعية غير مريحة.
وأشار الى طرق بسيطة لمعرفة أن الآلام ناتجة عن خلل ميكانيكي في المفاصل والعضلات، حيث تكون هذه الآلام عادة موضعية مثل عضلات الرقبة او الكتفين او اسفل الظهر، وتزداد عند تحريك العضو المصاب لجهة معينة فتشتد عند الضغط على المنطقة المتأثرة بالاجهاد (العضلات تكون متشنجة وفي بعض الحالات تكون صلبة وتشبه الحبل) وعادة لا توجد أضرار عصبية مثل الخدران والتنميل، خصوصاً في الحالات الحادة عند الأطفال بعد عمر 12 سنة، وعند وجود سمنة يزداد ظهور هذه الأمراض، وعند سؤال المريض عن طبيعة عمله او نمط حياته يظهر ان عدد ساعات مشاهدته للتلفزيون تكون طويلة.
وأشار الدكتور عبدالواحد الى حالة أحد المرضى (عمره 16 عاماً) كان يعاني من آلام شديدة في الظهر استمرت لعدة أشهر، وقد راجع عددا من الاطباء وعُملت له جميع الفحوص بما فيها التصوير بالرنين المغناطيسي، وجميعها كانت طبيعية ولا يوجد فيها خلل، وبعد ذلك عند سؤال المريض ماذا كان يعمل خلال هذه الأشهر تبين أنه كان يجلس ساعات طويلة جداً لمشاهدة واستعمال الانترنت، وقد تحسنت حالته بعد تعديل وضعية الجلوس وتقليل ساعات المشاهدة. وعن وسائل الوقاية من الأضرار الناتجة عن مشاهدة التلفزيون قال الدكتور عبدالواحد: ان هناك عوامل عدة تساعد على الوقاية من أمراض المفاصل منها:
- الجلوس بوضعية مريحة بحيث تكون جميع أجزاء الجسم مستندة بشكل صحيح بما فيها القدمان بحيث تكون الزاوية بين الجسم والفخذين عند الحوض وكذلك مفصل الركبتين والكاحلين بحدود 90 درجة.
- تغيير وضع الجسم مثلاً من الجلوس على الأريكة الى الجلوس على الارض او استعمال كرسي آخر.
- استخدام مسند للظهر او استعمال وسادة ملفوفة تسند أسفل الظهر عند الجلوس.
- وضعية ما يسمى “نصف الجلوس” تكون سيئة جداً على الرقبة والظهر مثل الانحناء الى الأمام عند الجلوس أو التمدد على الأريكة.
- الانتباه لوضعية الأجهزة مثل التلفزيون او شاشة الكمبيوتر حيث يجب ان تكون بمستوى النظر وبمسافة معقولة عن الجسم، كذلك لوحة مفاتيح الكمبيوتر يجب ان يكون ارتفاعها ملائماً للجسم فلا يضطر الشخص الى الانحناء للأمام وكذلك يجب ان تكون اليدان مستندتين عند المرفق والرسغ على الطاولة.
- عند اضطرار الشخص لمشاهدة التلفزيون لفترة طويلة يجب ان تكون هناك فترات راحة يقف فيها الشخص ويعمل شدا وتحريكا للجسم.
- عند شعورك بألم في الجسم يفضّل ان تغير وضعية الجلوس.
- يفضل ان يكون جهاز التلفزيون في غرفة تتوافر فيها اشياء أخرى مثل الكتب والمجلات والعاب الأطفال، وكذلك تشجيع الأطفال على عمل اشياء اخرى غير مشاهدة التلفزيون مثل الرسم أو غيره.
- يجب ان يكون جهاز التلفزيون بعيداً عن غرفة نوم الأطفال.
الآثار النفسية
ومن جانبه تحدث الدكتور علي الحرجان، اخصائي الطب النفسي في الشارقة عن الآثار النفسية لمشاهدة التلفزيون لمدد طويلة، وقال: إن التلفزيون من أخطر وسائل الاعلام والتكنولوجيا الحديثة التي تلعب دوراً مهماً في نشوء السلوك الايجابي والسلبي لدى الأطفال.
وأضاف أن الأطفال والمراهقين يقضون امام التلفزيون ساعات، ويعايشونه اكثر مما يعايشون آباءهم، وتشير الدراسات الى ان الطفل في بعض الأقطار العربية يقضي أمام التلفزيون ما بين 3 - 4 ساعات يومياً خلال أيام الدراسة، وأكثر من ذلك في أيام العطل، وبذلك يصبح التلفزيون اداة بالغة التأثير، خاصة اذا اشاع العنف فيما يعرضه من مواد، لأن مشاهدة العنف التلفزيوني في حالة الاسترخاء الجسماني تؤدي الى تراكم الانفعال لدى الطفل فتزيد من توتره أو إحباطه، مما يولد لديه في النهاية مشاعر من العنف، عكس ممارسة الرياضة التي تخرج الانفعال والتوتر. وأشار الدكتور الحرجان الى بعض الدراسات النفسية التي خلصت الى ان المراهقين الذين تابعوا برامج العنف التلفزيونية لفترة طويلة، كانوا أكثر عدوانية في تصرفاتهم مع الآخرين او تورطوا في أعمال سطو وسرقة واعتداءات ومشاجرات بعد وصولهم الى مرحلة الرجولة قياساً الى الذين تابعوا تلك البرامج لفترة قصيرة. ويؤكد ان التلفزيون في الوقت نفسه يلعب دوراً مهماً في حياة الطفل والعائلة، وله تأثير ايجابي كبير في تطوير وتحسين شخصية الطفل، وخلق الأمل والسعادة بين أفراد العائلة، وذلك في اختيار البرامج التلفزيونية الهادفة ذات المضمون الاجتماعي والعلمي، والذي يخدم مصلحة الطفل والعائلة، وكذلك البرامج المسلية الهادفة والتي تخلق جواً من المرح والتسامح والتعاون والألفة بين أفراد العائلة، وبالمقابل نجد هناك برامج تلفزيونية من الممكن ان تزرع الشك والانانية والحقد بين افراد الاسرة الواحدة من خلال ممارسة السلوك ذاته او تقليد الكلام نفسه وترديده، وهذا ما نجده جلياً لدى الأطفال أو المراهقين.