أثقل شئ في الميـــــــزان
قد ثبت عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق " 1 . وفي رواية : " ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء " 2 ، وفي رواية : " ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق ، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة " 3 .
بين
النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فضل التحلي بالأخلاق الحسنة ،
فذكر أن حسن الخلق أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة. ولقد كان التحلي
بحسن الخلق من أخلاق الأنبياء والرسل ، ومنهم نبينا محمد عليه الصلاة و
السلام الذي وصفه ربه بقوله : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
سورة القلم : 4 . وهذه أمنا عائشة لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم
قالت : كان خلقه القرآن ، أي : متخلقاً بأخلاق القرآن فعلاً لما يجب
ويستحب فعله ، وتاركاً لما يحرم ويكره فعله ، فكان عاملاً بالأوامر
مجتنباً للزواجر . لقد كان صلى الله عليه وسلم ذا أخلاق حسنة ، بل هو
مصدرها وماهيتها ، تحلى بحسن الخلق في قوله وفعله ، بل هو صاحب الخلْق
والخُلق الحسن، وإليك بعض الشواهد على حسن خلقه ؛ فقد أخرج البخاري ومسلم
: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : لم يكن رسول الله
­صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ، وكان يقول : " إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً " . وهذا
أنس أحد الذين تشرفوا بخدمته صلى الله عليه وسلم يقص علينا بعضاً من
أخلاقه فيقول كما في صحيح مسلم : خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين
والله ما قال لي أف قط ، ولا قال لشيء لم فعلت كذا ، وهلا فعلت كذا ، زاد
الترمذي : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً ، وما
مسست خزاً قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عَرَق رسول الله صلى
الله عليه وسلم 4. وهكذا
أصحابه في عصره ومن بعده ساروا على ما سار عليه معلمهم الأول صلى الله
عليه وسلم في كل شأن من شؤونهم ، في العقيدة في العبادات والمعاملات، في
السلم والحرب ، وفي كل شأن
كما أن التحلي بحسن الخلق من صفات عباد الله المتقين ، كما أخبر الله بذلك ، فقال تعالى : {وَسَارِعُواْ
إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء
وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فكل هذه الأعمال المذكورة في الآية من الأخلاق الحسنة كما سيأتي الإشارة إلى ذلك .
وقد ضمن النبي صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة لمن حسن خلقه؛ فقال : " وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه " وما ذاك إلا لأن حسن الخلق من الإيمان ، ومن أسباب دخول الجنان ؛ فعن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ، قال :" تقوى الله، وحسن الخلق " وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، قال : " الأجوفان : الفم والفرج " 5، قال
ابن القيم رحمه الله : جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن
الخلق ، لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه ، وحسن الخلق يصلح ما
بينه وبين خلقه. فتقوى الله توجب له محبة الله ، وحسن الخلق يدعو الناس
إلى محبته 6.
كما
أن التحلي بحسن الخلق يدل على وجود التقوى ، ولذلك فقد أوصى النبي صلى
الله عليه وسلم بذلك ؛ كما في وصيته لمعاذ رضي الله عنه ، وهي وصية لجميع
أمته : " اتق الله حيثما كنت ، وأتبعِ السيئة الحسنةَ تمحُها ، وخالق الناس بخلق حسن " 7.
فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الحث على تقوى الله وحسن الخلق ، قال
ابن رجب رحمه الله عند شرحه لهذا الحديث : هذه من خصال التقوى ، ولا تتم
التقوى إلا به أي مخالقة الناس بالخلق الحسن ، وإنما أفردها بالذكر للحاجة
إلى بيانه؛ فإن كثيراً من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون
حقوق عباده ، فنص له على الأمر بإحسان العشرة للناس، فإنه (أي معاذ) كان
قد بعثه إلى اليمن معلماً لهم ومفهماً وقاضياً ، ومن كان كذلك فإنه يحتاج
إلى مخالقة الناس بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيره ممن لا حاجة للناس به
ولا يخالطهم ، وكثيراً ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله والانعكاف
على محبته وخشيته وطاعته إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها ،
والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيزٌ جداً لا يقوى عليه إلا
الكُمَّلُ من الأنبياء والصديقين 8
كما أن التحلي بالخلق الحسن مما يقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة؛ فعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً " 9 .
وقال
بعض أهل العلم : حسن الخلق كظم الغيظ لله ، وإظهار الطلاقة والبشر، إلا
للمبتدع والفاجر والعفو عن الزَّالين إلا تأديباً أو إقامة حدّ ٍ، وكف
الأذى عن كل مسلم أو معاهد ، إلا تغيير منكر أو أخذاً بمظلمة لمظلوم من
غير تعدٍّ .
إن
حسن الخلق يشمل امتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وهو ما جاء بيانه في
الكتاب والسنة. فعلى المسلم الذي يرجو لقاء الله والدار الآخرة أن يتحلى
بحسن الخلق؛ فإنه نعم الحلية لكل من أراد التحلي والتزين في الحياة
الدنيا، وهو الموصل إلى أعالي الجنان.
منقــــــــــــــــــــــــــــــــول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أبو داود، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الجامع، رقم (5721).2 أخرجه الترمذي، قال الألباني: "صحيح" كما في 3 أخرجه الترمذي، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الجامع، رقم (5726). 4 رواه الترمذي، وقال الألباني صحيح" كما في مختصر الشمائل، رقم(296).5 رواه الترمذي، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة(977)6 الفوائد(54).7 رواه الترمذي وقال حديث حسن وأحمد والحاكم، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (97). 8 يراجع: جامع العوم (1/454). 9 أخرجه الترمذي. وأصله في البخاري.