وبُتر الشريان

موضوع: وبُتر الشريان الخميس 01 يوليو 2010, 9:04 am

بسم الله الرحمان الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

وبُتر الشريان Dgfdgdcu9

كان القمر الفضي يفصح عن وجهه خلف الجبال و الليل البهيم يرمي بثقله فوق
الرمال وفوق قلبه المثقل كدرا ، الهضبة الممتدة تستلقي تحت دوس نعاله في
استرخاء وهو يشق ثراها المقفر حثيث الخطى ، والريح الصلفة تلكز قسماته
الواجمة عازفة لحنها المريب..

بعد
مسير متواصل لساعات طوال قرر أخيرا أن يستجدي لنفسه قسطا من الراحة وسط
بحر الرمال الفضية وما طوّقها من فيافي المجهول. جلس القرفصاء متكورا حول
نفسه متدثرا في جلبابه الصوفي وقد تصاعد الدخان بحلقاته الدائرية من عمق
كومة الحطب أمامه وألسنة اللهب تترقرق منعكسة على صفحة وجهه فتشيع في
دواخله مسحة من مشاعر شتى ،

و عيناه
مثبتتان في النار يخيل إليه أن روحه تصطرخ بين ألسنتها ،التعب يتجلى في
تفاصيل جسده العليل وكل جارحة منه تجأر لاعنة الحرب التي فرقت بينه وبين
زوجه وابنه الوحيد.. قدر السوء ذاك الذي جعل دمه مهدورا ، وسفك دم أبناء
العمومة قدرا مقدورا.

كان
الضيق يمزق أحشاءه والألم يعتصر مابين أضلعه وذات المشهد المريع يتمثل
أمام عينيه وكأن كمين الذكريات يأبى إلا أن يطوق أسوار عالمه المحاكي
لفحمة ليله . كانت تفاصيل وجهه الواجم تتبدل في ضوء اللهب المتراقص
قبالته فتزدحم على قسماته تجاعيد الأسى ومشهد بيت عائلته العتيق وقد
أحرقت ألسنته النيران وانبجست من خِصاصه الأشجان ، لايبارح ناظريه ..صراخ
،أنين ، نحيب ..وعويل الثكلى تصدح به الأركان..

ظل
"المختار" جامدا في مكانه لدقائق معدودة غير مستوعب البتة ما تمثل بين
يديه وكأنه يطالع مشهدا قد صيغت فصوله في أعماق الجحيم...كانت قطرات
العرق تغمر جبينه وشفتاه قد تجمدتا لوعة وهو يستمع إلى أمه العجوز وهي
مضرجة في دمائها وقد لف هول الفاجعة أوصالها ، تحكي له في نحيب وذهول
تفاصيل الهجوم الغادر و خطف زوجته و وحيده من لدن أبناء العمومة شرق
الوادي الفاصل بين رقعتين لطالما توحدتا في مواجهة الاستعمار الغاشم، قبل
أن يخلع القوم شملة التوحد وقد تهادت به رياح الغلواء و كأنما كان معلقا
على مشجب من هشيم . بعد أن تنازعت حكومتا البلدين الجارين أراضي ما حول
الضفتين ،بعد خروج المحتل ، فسخرتا لحربهما الضروس أبناء العمومة من
القريتين المتاخمتين للوادي ، وكان القرار بفك الارتباط وطمس معالم وحدة
الأمس القريب : ففرق بين الرجل وزوجه وبوعد بين المرأة وأبنائها بقرار
رسمي صاغت بنوده مجامع حكماء البلدين الجارين .

كانت
مزارع الموت منفغرة الثرى تستقبل كل يوم أفواجا جديدة من ضحايا
الضفتين،في زمن الانجراف نحو شفير المجهول ،الأمهات تستجدين أشلاء فلذاتهن
من بين الأنقاض وتمتد أيادي الآباء لتغمض أعين ما سلم من أجساد القتلى من
فواجع التشظي .

وجد
"المختار" نفسه وقد رُمي به نحو سبيل كدِر لامناص معه من إهراق دماء بني
العمومة دون إدراك منتهاه وهو يحمل سلاحه مناجزا إياهم وفيالق الجند من
حكومة الجارة الشرقية...

كان الضباب البارد يغفو فوق صفحة الماء الساكنة قبالته وهو يهب من مقامه
مسترسلا في ذكرياته الصاخبة ، وألغام التفاصيل تنفجر واحدا تلو الآخر في
صمت تأوهاته ، وقد أشبع مشهد الأشلاء نهم سادية تراكمت بين تجاويفه
وارتوت من دماء الإخوة الأعداء خمائل الثأر بين جانبيه .

بيديه
زرع اللغم تحت الجسر الذي عبرته عربة الجند التي ضمت ابني عمه وصهريه
"سالم" و "عباس " فكان المشهد بمنزلة الطعنة النجلاء لبقية الروح الوادعة
بين أعماقه.. فلم يعد يشغل باله شاغل غير استجداء أيسر السبل نحو القرية
الشرقية عله يستعيد وحيده وزوجته من بين أطواق أهلها بالضفة المجاورة ،
مهما كان الثمن !!

كان القتال بين الفيلقين الغربي والشرقي قد انتقال إلى الجزء الجنوبي بين البلدين بعيدا عن حدود مابين قريتي أبناء العمومة بعد أن امتد لأشهر شمال الوادي منذ أن بتر الشريان بين الضفتين فغمرت لجة الضغائن تجاويفه ...

،
فكر"المختار" مليا فجال في نفسه أن عبور الفج المطل على الوادي قد
يختصر أمامه المسافات ويجعل مسيره آمنا في منأى عن شظايا القنابل والرصاص
الطائش..

رغم
كراهيته للأمر، إلا أنه وجد نفسه مجبرا على التلفع بدثار نسوي تجنبا
لأعين الأعداء وهو يعبر لجة الوادي الضحلة وقد لعب مخمل الضباب الممتزج
برداء الفجر الدموي دوره في عبوره الآمن نحو الضفة الشرقية،

ثم طفق ينهب الطريق المسود أديمها وقد يمم وجهه شطر قرية بني العمومة حيث زوجته وابنه الوحيد .

كانت
أكداس الاحتمالات تتجلى بين عينيه غارقا في خواطره السوداء وهو ينتقل في
حذر بين جدران القرية الطينية إلى أن انتبذ منها مكانا قصيا قبالة منزل
أصهاره حيث نصفه الآخر وفلذة كبده...

عشرات الأسئلة تجوس بدواخله وهو يرمق بنصف عين باب المنزل وقد تجلت منه على حين غرة زوجته تعدو وراء ابنها والبشر يعلو محياها .

هب
"المختار" من مقامه ذاهلا وهو يحملق في تراسيمها وقد بدت أكثر حسنا وسعادة
، لم يعر الأمر اهتماما كبيرا وهو يثب من مكانه كالملسوع ضاما إياهما إليه
في حرارة وقد أزاح الغطاء عن وجهه وعيناه تذرفان الدمع السخين ، فيما شهقت
الزوجة في ارتياع وهي تتطلع إلى قسمات وجهه الشاحب المتعفر نقعا ...

-"خيل لي أنك رأيت شبحا ، لا زوجك الذي ضمرت عيناه ونحف جسده كمدا على فراقك " قالها "المختار"بنبرة تحمل فيضا من عتاب واستنكار..

-
" أما أنا فلم أعدم يوما أملا في لمّ ما فرقته الحرب اللعينة من شتات
..قبل أن يتناهى إلى مسامعي نبأ تحولك إلى وحش يرتوي برشف الدماء ...وكانت
دماء أخواي"سالم" و "عباس" غيضا من فيضها ..."، أجابته الزوجة ببرود
شديد ممسكة معصم ابنها كاتمة ما يضج به صدرها من حرقة وأسى ، وهي تعود
القهقرى إلى بيت أهلها..

-"
لم أسفك دم أحدهم بملكي، ولاكان إزهاق الأرواح يوما مسلكي ..لكل حرب
ضحاياها ، فلننس ما سلف ولنعد إلى مسكننا ..ولنبدأ صفحة جديدة ... " صرخ"
المختار" بأعلى صوته معقبا على كلماتها .

-" عذر أقبح من ذنب...ُبتر الشريان فلا سبيل للالتئامه " .. أجابته الزوجة بنبرة تطفح شجنا دون أن تلتفت إليه.

- "ستعودين معي رغم عنك وعن أنف أهلك وإلا نسفت رأسك نسفا..." ،صاح "المختار" و الزبد يتناثر عبر شفتيه ، [size=16] وهو يتناول بندقيته مزمجرا .[/size]

.. ثم انطلق الرصاص وتخضبت الأرض دما... وساد المكان صمت قاصف للحظات ...

قبل
أن تخترقه شهقات الزوجة منتحبة في مرارة وهي تجثو بركبتيها وقد بلل دمعها
السخين جسد زوجها المنبطح أرضا مضرجا في دمائه وقد غاب عن بؤبؤيه وهج
الحياة .

همس
الأب من ورائها وهو يمسح بيديه على كتفيها متمتما في أسى : " عذرا بنيتي
ولن أوعز الفجيعة لمنطق الأقدار .. ماكان لشوكة المستعمر أن تنسل من عمق
الشريان دون أن ينزف دما ….اندثرت الشوكة إلى الأبد ، لكنها خلفت في
أعقابها بدل الدم نجََسا ، وبتر الشريان وقد نزف قذارة "..

تفرق
الجمع على أعقاب كلمات الشيخ، وراح كل إلى حال سبيله وقد ركنت الجثة
جانبا في انتظار مواراتها الثرى بين حنايا مزرعة الموت ...