نصيحة لا تنسى

في غابة كثيفة كثيرة الأدغال أمضى مختار ذلك الحطاب الصابر سني حياته يحمل الفأس

ويقطع الأشجار اليابسة ويحملها على حماره



ليعود بها إلى المدينة فيبيعها كي يحصل على القوت الضروري ليقدمه لأولاده الثلاثة وابنته الوحدة. وهاهو الآن في الُثمانين من العمر وقد توَج الشيب رأسه ولحيته وخطَ الدَهر على جبينه ووجنتيه خطوط الكبر والشيخوخة وغدا كأنه هيكل متحرك نحيل. وجلس مختار دات يوم تحت ظل شجرة كبيرة وارفة الظلال وسندا طهره إلى جذعها طلبا للراحة والسكون. وراح ينطر إلى بعيد بعينين ســاهمتين وذهن شارد يستعرض أيام ألمضى حين ابتدأ حياته وكفاحه. إنه يفكر ويفكر بعمق لقد أكسبته الأيام خبرة عظمة واعطاه الزمان حكمة بالغة وأخد يمد يديه كأنه يتلمس شيئا من حوله لقد أحس بدنو أجله فأرد إن يعطي أبناءه نصيحة لا تنسى تكون ذخرا قبل وفاته لهم

كانت قد خطرت له فكرة صائبة هم بتنفيذها فنادى أبناءه بصوت فيه حشْرجة الموت ينم عن التعب السنين المديدة. فهرعوا أليه وجتمعوا حوله وبعونهم الهلع واللوْعة والأسى لما آل اليه والدهم الشيخ في سبيل تربيتهم ونشأتهم فيمي مضى من الأيام وعليهم وهم الابناء البررة أن يوفوه جزءا مما له عليهم اخرج المختار حزمة قضبان من عباءته كان قد أحضرها معه لتكون مثلا حيا لأولاده. وقال لهم:

ــ أبنائي الأعزاء لي عندكم طالب بسيط فأجابوا:

ـــ كلنا رهن إشارتك يا أبتاه. لقد كانوا يحبون والدهم محبة بالغة ويطيعونه في جميع أوامره. وقد عزة عليهم أن يروه ضعيفا متألما وعرفوا أن نهايته قد قربت فكانوا يصغون إليه بصمت ووقار.

واستأنف الشيخ الجليل كلامه قائلا:

ـــ ليحاول كل وحد منكم كسر وتحطيم هده العصي ولما أتم طلبه تقدم الولد البكر الكبير سعيدٌ

بخطى تابتة نحو أبيه. وكان طويــــل القامة عالي الجبهة أسمر اللون النظرات وتناول حزمة القضبان من يد والده المرتجفة.

حاول سعيد كسرها بكل أوتي من قوَة. لكنه لم يستطع فقال لا اقدر على كسرها دفعة واحدة يـــا ولدي لأنها متينة وقوية وردها إلى أبيه.

نظر إليه الأب العجوز باسمـــــا ودعا الابن الثاني رشيدا. وكان رشيد قصير القامة أشقر الشعر مفتول العضلات تظهر عليه علامات القوة. وبدأ المحاولة من جديد ولكن بدون جدوى فهمس في أذن أبيه قائلا:

ـــ لا أحد يستطع كسر هده الحزمة يا أبتي فليس كسرها بالأمر السهل وأعادها إليه.

ساد الصمت لحظة والجمع يفكرون في هدا الطلب ولا يعرفون الهدف منه أشار الوالد الشيخ إلى بشير الولد الأصغر وقال له:

ــ حاول ما استطعت يا ولدي وبكل قوة كسر هده الحزمة لكن الثالث هذا لم يتمكن من كسرها رغم نشاطه وقوة ساعده.

عندئذ فك الشيخ الوقور الحزمة وفرقها وأعطى كل وحد منهم عودا منها وطلب كسرها منفردة فتحطمت القضبان كلها.

دُهشت الفتاة هند ابنة الشيخ الوحيدة من هده التجربة وتساءلت عن سر هدا العمل ورجت والدها الشيخ التفسير ما يبتغيه.

صفق الحطاب بيديه وقال:

-أنتم يا أولادي مثل هده الحزمة إدا اتفقتم تعاضدتم كنتم كالرجال الواحد بالقوة والعدة وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا والأمة قوية بقوة أفرادها وبتماسكهم وبتآلفهم. والمحبًة هي التي تشد أزرهم ليُقدموا التضحيات في سبل الوطن وقهر الأعداء.

والنصر لهم ما داموا مترابطين ومتحدين ولكنهم إدا تفرقوا لم يستطيعوا الصمود ولا المجابهة تلاشت قوتهم ودحروا وتشتتوا وذهبت ريحهم.

نظر الأبناء إلى بعضهم نظرة خاطفة وتشابكوا بالأيدي وانتصبوا في حلقة حول والدهم طوعا له وقبولا لأمره وفهما لطلبه وتنفيذا لمأربه وعاهدوه على ألالفة والمحبة والتساند مدى الحياة.

عندئذ أغمض الشيخ الجليل عينيه بعد أن ودع الدنيا بنظرة ملؤها الفرح والاطمئنان إلى مستقبل أبنائه.

وحافظ الأولاد على الوصية..

وعاشــــــــــــــــــوا في سعـــــــــــــــــــــــــادة وهنــــــــــــــــــــــاء