©][© دمـــــــــوع الـــورد

دموع الورد



كانت تجلس فوق ركبتي والدها ، مُسندة رأسها على صدره ، يداعب خدها بيديه ،

ثم يهمس قائلاً :" ستصبحين أجمل فتاة في الدنيا ، ربما تشاركين في مسابقات الجمال ، أو عرض ٍ للأزياء ، ستفوزين ؛ أعلم. "

ثم يطبع قبلة فوق رأسها ، و يبتسم.

-------

لم تكن تعلم خطورة الموقف ، اليوم هو يوم العرض الكبير ، في تلك الصالة الكبيرة ذات الأنوار البلورية ، و الستائر الفاخرة ، و بعضٌ من الأضواء الخافتة ،

ممرٌ طويل يمتد منذ بداية الصالة لمسافة تقرب نصفها ، الكاميرات في كل مكان ، ضبابٌ دخاني يتلاشى مع تلك البسمات الخافتة و القهقهات.

مدت يدها لتمسك ذلك القرط ، كانت فرحة لأنها سترتديه اخيراً ، بعد أن قامت بوعده أن ترتديه ليلة العرض الكبير.

كان قد أشتراه لها في ليلة ماطرة ، يبحث هنا و هناك عن هدية عيد ميلادها ، المطر يهطل بغزارة و صورتها لا تفارقه،

كان يراها بين القطرات ، ضؤ عينيها ينعكس على وجهه ، لمستها تخترق مساماته.

أختلطت دموعه بالمطر ، شعوره بالضعف يحترق بداخله ، كان يتمنى أن يقول لها :" أحبك ِ " !

كان يشعر بحبها كل لحظة ، لكنه خائف ، كان دائماً ما يشعر بأنه مكبلٌ أمام الحروف ، مثقلٌ بالصمت !

لا يعلم كيف ينطقها ، لكن أمله كبيرٌ بعيد ميلادها ، تلك الفرصة المواتية للإعتراف اخيراً.

لم يكن يملك المال الكافي لشراء هدية ، لكن عزيمته و إصراره دفعاه ليعمل ليل نهار ، فقط من أجل توفير ثمن ذلك القرط الذهبي .

كان دائماً ما يقول :" سيكون جميلاً بين أذنيها ، ستفوق جمال الطبيعة سحراً ، أعلم ، تلك الساحرة لا يوجد قمرٌ مثلها في العالم "

كان يراها أمامه بذلك الشعر الأسود الطويل كشلال ٍ أسود ، يوم أهداها تلك الوردة ، الندية ، الحمراء كشفاهها المرتسمة كاللوحة !

إبتسمت ، تنهدت ببطء ، لمعان عينيها لم يكن له مثيل.

أمسكتْ بها بعطف ٍ و حنان ، بأطراف أناملها داعبتها ، سقط الندى من بين خديها دمعة حارة ، كما سقطت تلك النقطة البيضاء من بين أطراف تلك الوردة !

أمسك بيدها و وضع بين راحتها علبة صغيرة ، و أختفى بين الظلام !

-------------

كان والدها يتراجع صحياً يوم بعد يوم ، لم يعد يستطيع المشي.

أصبح جليساً للفراش ، لكن إبتسامته لم تغب يوماً عن شفاهه ، إيمانه كان قوياً !

لكن قلبها كان ضعيفاً ، لم تكن لتتحمل رؤيته بهذه الطريقة ، هو الذي و منذ وفاة والدتها كان يقوم بكل شيء !

كان الأب ، الأم ، كان الأخ ، الأخت، عندما تصحو صباحاً يستقبلها بقبلة ، و عندما تذهب للنوم ليلاً ، يودعها بقبلة !

كان بالنسبة لها ذلك الربيع الذي لا يغيب.

عند الشتاء تحتمي تحت وسادة صدره من البرد القارس ، بين يديه كانت تجد تلك الحميمية التي تنسيها حرارة الصيف !

و عند الخريف تجدها تحتمي بمظلة قصصه و همساته !

لم يمنعها من شيء ، منحها ما أستطاع من رعاية و حب !

كانت تضحك كلما خالجها ذلك الشعور ، يوم جلست أمام المرآة و هو ممسكاً بذلك المشط !

قال لها :" ما رأيك ِ أن نقص لك ِ شعرك ِ ، أظنه طويلاً أكثر من اللازم "

قالت بذلك الصوت الأنثوي الدلوع :" لكنه يعجبني أبي ، هل مللت من تسريحه ، أمي لم تكن تتذمر منه ، كانت تقول لي دائماً أن شعري هو تاجي فحافظي عليه "

كانت حينها تلاعب شعرها و هي تتكلم ، عندما رفعت رأسها بإتجاه المرآة ، وجدته مبتسم و الدموع بين عينيه .

أمسك رأسها ببطء ، قبّلها و قال :" هو فعلاً تاجك يا أبنتي ، كم كبرت ِ طفلتي "

كانت الذكريات تأتي تباعاً و هي لا تعلم كيف تساعد أباها ، محاولاتها في إخفاء دموعها لم تجدي نفعاً ، كان يشعر بنحيبها في عينيها !

لم يقل لها بأنه مصابٌ بسرطان الكبد ، و أن أيامه معدودة و ربما يودعها في أية لحظة !

كان دائماً ما يردد في نفسه :" مسكينة أنت ِ يا وردتي "

---------

تبقت خمس دقائق لتظهر أمام ذلك الجمهور ، من خلف تلك الستارة ، الاضواء مسلطة في أتجاهها ، شعرها الطويل المتماوج ،

قرطها الذهبي ، كل شيء متقن ، ينقصها وجود والدها و حبيبها !

لم تسمع أخباراً عن حبيبها منذ إعترافه لها بحبه ، أخبرها بأن هناك فرصة عمل خارجاً ، لكنه سيعود.

كانت تعلم بأن عودته شبه مستحيلة ، رغم تمسُكها الدائم بذلك الأمل الوردي !

لكن الحقيقة المُرة تفرض علينا الكثير !

نبأ إنفجار تلك الباخرة وسط المحيط ، و عدم إيجادهم لجثته ، كانت الصدمة الكبرى !

لا تعلم شيئاً عنه ، كل ما تبقى لها تلك الوردة الحمراء التي أعطاها لها في زهرية فضية !

قال لها :" نحن البشر كالذهرة ، لا نحيا دون رعاية ، و لا نبكي دون دموع ، لكننا عندما نتألم نتألم بصمت.

هل دهستي وردة من قبل و سمعت ِ صراخها ! "

لم تكن حينها تعلم ما يقول، كل ما قامت به سقوطها بين أحضانه ، و همست له : " سأحبك و سأظل أحبك.

ستكون تلك الوردة ونيسي حتى تعود ، سأداعبها كما كنت أداعب يديك ، و أهامسها كما كنت تهمس لي بعينيك ".

وضع يده فوق فمها و قال لها بألم :" أحبك ِ ، و سأظل أحبك ِ ".

و أحتضنها كما يحتضن حلماً هارباً !

-------------

كانت ترتدي ذلك الفستان الأحمر ، بالكُسْر ِ المنحنية التي كلما أتجه نظرك شبر ٍ الى الأسفل أتسع قطر الدائرة التي يمثل جسدها مركزاً لها !

و كلما صوبت ناظريك الى الأعلى تجده يضيق شيئاً فشيئاً ، حتى تصطدم بلمعان وجهها المضيء !

الجميع كان يغمغم من شدة جمالها !

تلك الموسيقى المتناسقة مع حركة أرجلها ، كانت تهزُ المكان.

سقط نظرها على ذلك الكرسي الفارغ ، عند وصولها ألى آخر ذلك الممر !

رأت والدها الذي توفي منذ أكثر من شهرين و هو يصفق لها ، لم تغب تلك الإبتسامة من شفتيه !

وضع يده على فمه ، و طبع قُبلة حُب ٍ عليها ، ثم بسط يده بإتجاهها و نفث هواءاً طفيفاً من فمه ، ليرسل لها قبلاته الحارة ، مُهنئاً لها !

مرّت ذكريات تلك الأعوام امام عينيها !

أيام دراستها لبكالاريوس التصميم ، شغفها بالملابس و التجميل !

التشجيع الذي لاقته من والدها !

اول عرض ِ أزياء تقوم به بدور المصممة ، دخولها عالم الأزياء كعارضة و مصممة في آن ٍ واحد !

حبيبها الذي لا تعلم أخباره !

والدها الذي توفى !

و تلك الوردة التي أعطاها لها حبيبها ، جمالها يزداد يوماً بعد يوماً ، قطرات الندى تنساب بهدوء ، تلمع مع إشراقة شمس الصباح البهية !

و هي تقف أمام ذلك الحشد ، مصفقاً لها و الدموع بين عينيها !

أحد المصورين كان يلتقط صوراً ، شعر بأن هناك لمعاناً في إحدى اللقطات !

قال في نفسه : " دموعها كدموع الورد في ذلك الفستان الأحمر " !