الرايات
خافقة تحت سماء لم تتكّون
بعد…
أما نحن المنذورون لنحملها
تحت الريح
وتحت المطر
فعلينا أن نتكّون أيضاً.
ـ سعدي يوسف ـ
“ طفولة “
- 1 -
هكذا كانت الصباحات تهلّ مؤتلقة !
وعبر البراري المنداحة على مدِّ النظر كنت تركض حتى تتوحـد بالسمـاء، وترى إلى مـا لا نهايـة، بدءاً بسفوح "طوروس" ذات الـلـون الأسود المتداخـل بالبنفسجي شمـالاً، وانتهـاء بجبل "عبد العزيز" الرمادي اللون، ينهض عـن الأرض كنهدٍ جنوباً !
مأخـوذاً بأصـداء الطفولـة كنت تقطـع الفلــوات المرصّعــــــة بالعاكول والخروب والأعشاب المتيبسة على ضفة "الزركـان"، وآنها لم تكن تعــرف أن زمنـاً سيجيء لا يشبـه ما قبلـه، زمنــاً تفتقـد الأشيـاء فيــه تناغمهــا، فيغيض " الزركــــان" من قبل أن يتناسل مع "الخابور"، وتتقزم من حوله أشجار البطم!
وفي حـلّك وترحـالك كـــان قطيـع الغنــم، واندفــاع الطفـولـة النزقـة خارج مـدارات المألـوف يرافقانـك، بعيداً تقـذف عصـاك، فيركض "بطـاح" لإحضارها، وتسابقه مشجّعاً، قاطعـاً الغيضات المالحة، مخترقاً غلالة الغبار الرقيقة، لكن "بطاحاً" كان يسبقك إليها !
غرباً كنت توغـل حيث الهواء ـ بُعَيْد الفجر ـ مفعمٌ برطوبـة رخيّـة، فيما "الجدَيدْة" ماتزال نهب نـوم لذيذ، فيشرع "الأحيمر" صدره للريح الغربية، يفتح خياشيمه ليعبّ منها، وتصهل الروابي والتـلال الصغـيرة بصدى الجرس المعّلق في رقبة "المرياع" !
صعداً نحو مركز القبة الزرقـاء الشفيفة، يرتفع قـرص الشمس، فتنبعث في الجـــو رائحة عشب يفقـد ما تبقى في الأنساغ من ريـق، وتلجـأ الطيـور و
الزواحف إلى حمى ذروة تقيها، و تتمايـل سوق القمح، و هي تنوء تحـت سنابلها، وتتلفح البرية بهواء راكد !
لابأس ! ما يزال الطقس محتملاً !
كنتَ تقــول، وتركـــض لتلاعب النعاج، تندفع من بعيد ملوحاً بعصاك، فيهتاج القطيع، وينحر يميناً و يساراً، ثم تعود لتجميعه، فينخفض ثغاؤه، تلاعب خروفـاً، وتضحــك، تأخــذ التراب بيـــن أصابعك، تفركه فيلثغ بالندى، تقذفه بعيداً إلى الأعلى، تنشره فـي وجه السماء، وترفع رأسك نحو الشمس، لكن هالة البهاء الخاطف لسناهـا يفجؤك، فتديـر رأسـك بسرعـة، و قد غطت يداك وجهك كله، بعد قليل تبعدهمـا، وتفتح عينيك، لكنك لا تـرى خلا السـواد ـ فيه ـ تومض نجوم صفر وحمر، ثم تعاودك الرؤية بالتدريج!
كانت المسافـات تسرقك، والوهـاد المستلقية في البهاء الطلـق تطويك، وها أنت تبتعد عن القرية، ولا شيء يوقفك، وقد يحدث أن تمرّ بك عربـة سيارة، فتسابـق ظلك إليهـا، وتنقلب يداك إلى مناديل ملوحة، ففي المعتاد من الأحوال لم تكن ترى عربة مثلها إلا مرة كل عام! كــــان ذاك آن يحّل الآغـا بالقريـة، فيرتفع الصخب، ويجتمـع الفلاحون في بيت المختار،بينما يتراكض الأطفال حول المضافة، يتأملـون العربـة بدهشـة، ثم يسقـط خـروف مسكين ضحيــة لتلك الزيارة !
تخـوم المنطقـة الجبليـة تندفـع نحـوك، وبفـرح غـامر تعتلـــي الصخور، لا أحد ـ إلاّك ـ عبر الجهـات الأربع ! سيد ما حـولك أنت، و قد تحمل آخـر ألسنة الريــح صـوت دوري ، أو درغل واقـع في الفخـاخ العديـدة التي
كنتَ تعدّها بمهـارة، فيصل إحساسك بالفـرح إلى الذروة !
عنـد الظهيـرة كـل شيء كـان يلتهب، ويصبح خانقـاً ومغبـراً، فتتمــدد في ظلِّ أشجـار البطم، وتمسح عرقـك، تسيح مـــع دورة الزمن متذكراً أيام الشتاء، فتبتسم ساخراً من نفسك!
في الشتاء أيضاً لم يكن ثمة ملجأ خلا الصخور!
حتى إذا وصلت أمك مع الحلاّبات عصراً، لـم تعـد الأرض تحملك، فتروح تنظر إلى وعاء الحليب وهو يمتلئ، ويعلـوه الزبـد، بينا تعالـج أصابـع أمـك أضرع النعـاج بخفـة ودرايـة، كنت تتمنّى أن تنحني لتـرى خيوط الحليب الحريرية، وهي تصطدم بالآنية النحاسية، بدلاً من الإمساك برؤوس الشياه العصية على الهدوء، لكنك ما تلبث أن ترفع الإناء نحو الأعلى، وتشرب الحليب الطازج بنهم، ناسياً كل شيء!
وحين كانت أمك تبتعد، وتندمج مع خط الأفـق الراحــل نحــو القرية، كانت يدك تمتدّ متسللة إلى جيبك، لتخرج علبة الثقاب التي سرقتها من الدار، ثم تندفع هنا وهناك، تجمع روث البهائم، وبقايا القش الجـاف، وتشـوي مـا اصطدتـه مـن عصـافير، إلـه المكـان ــ أنـت ــ في لحظـة واقعـة خارج مسارات الزمن، وانكسارات العالم ! بيد أن الغروب ما يلبث أن يزحف، فينحدر الطريق المُترب عائداً إلى القرية، يجرك خلفه منهكاً ملوّحـاً، وخلفك يسير القطيع مطاطئاً سابحاً في آخر التماع للشمس المحتضرة، بينما يتدلى لسان "بطاح" الأحمر! ومع اقتراب القطعان من القرية، كانت غلالة كثيفة من الغبار تتداخل بثغاء النعاج، وأصوات الرعاة، فيتحول بئر القرية، ومورد الماء إلى قفير نحل ـ فيه ـ تصطف رؤوس النعاج العطشى، ويشعر المتأمل في المشهد عن كثب بذلك الاتسّاق المهيب في الطبيعة، وهي تكشف عن أسرارها عبر تلك الهمهمات الغامضة المتبادلة بين عناصر الكون الأزلية، فيما يرين وجوم غريب على الطيور الداجنة والزواحف والهوام، وكأنها هي الأخرى مأخوذة بقدرة الخالق، ويروح الكبار في السن يسبّحون بحمد الإله في ما تبقّى لهم من زمن،في الوقت الذي يتراكض ـ فيه ـ الأهالي لمساعـدة الرعاة على منع القطعان من الاختلاط، والتأكد من سلامتها، فإذا ورد القطيع، ألفيت أباك في الزريبة ينتظر، بعد أن أعدّ المذاود بالعلف!
الإنهاك يداهمك، يأخذ مداه داخل الشرايين بعـــد يوم مرهق، و عيناك المطفأتان تجهدان في طلب الراحة ، فقط عليك أن تنتهي من تعليف القطيع، وتسكت تلك المعدة الجائعة !
ـ 2 ـ
أنت الآن في مملكة النشوة !
وفي اللحظة المنفلتة من عقــال أزمنة البشر، يبــدو المـرء متماسكاً قوياً كقلعة عصية على السقوط، إلا أن اللحظات المسربلة بالغموض كانت على الأبواب، حادة كمدية انتُضيت تطعـن فـــلول المعقولات المهزومة، فمادت الأرض، وما بدا متماسكاً قوياً راح يتشظى، وينهار فتاتاً! كنت تحس بأنك تقف في الفراغ، وما استجد من حولك لم يكن نسيجاً مترابطاً مقنعاً لمنطق الطفولـــة! فوقفت متمزقاً، موزّع النفس بين الماضي الأليف، واحتمـــالات المستقبل الغامض، وما كان لك إلاّ أن تبتهل إلى الله كي لا يقع ما تخشاه! الله ! ذاك الطيف غير المرئي، الكلّي القدرة، والمتناهي الجبروت، الذي يهوّم فوق تلك المناطــق العذراء، وكنتَ تتســاءل بحيرة، ما الذي يدفع أباك إلى النزوح نحو المدينة!؟ لماذا يريد أن يقتلع النبتة مـن جذورها إلى بيئة غريبة!؟ أنت جزء مــن هذا المكان، تمامـاً كمـا الشجرة الواقفة بباب القرية، وهذا المكان وهج في دمك، ينغل فيه بساحاته ومساربه، فهل جاءت نهاية الأيام اللذيذة التي كنت تقضيها تحت الشموس المتوهجة، وعلى ضفاف "الزركان"، وبين غيضاته!؟ " أنت ترين يا أم أحمد، أن أحمد قد كبر، وأنهى المرحلة الإبتدائية "، ليتك لم تنه تلك المرحلة! لو كنت تعرف بأنها ستبعد الأقمار عن أفلاكها لما فعلت، ولكن أنّى لك أن تعرف!؟
مساءً كنت تعود إلى البيت مغموراً بوشاح من السعادة، فلا تستطيع انتظار أمك كي تخلع الحذاء من قدميك، وتهاجم "منسف" البرغل بنهم، ضاحكاً من زجرها، لكن سعال أبيك الأجش يرتفع ـ فجأة ـ من الغرفة المجاورة، فتستقيم في جلستك، وتنتظر ريثما تخلع أمك الفردة الثانية، لتنتقل إلى الغرفة الأخرى، تقعد قدام النار، وتنظر إلى "المنقل" بيد أبيك، يفتح به باب المدفأة، ويخرج منها قطعاً من روث البهائم، بعد أن تحولت إلى جمرات حمراء رائعة!
كان أبوك كعادته يخرج كل ليلة إلى مضافة المختار للسمر، فتنسلُّ بدورك إلى أترابك، تقلبون العالم المحيط بكم إلى أعراس صغيرة على طريقتكم، لكن الهمهمات المبهمة التي أخذت تدور بين أبويك مؤخراً كانت تبدو غامضة، مثيرة للتوجس، والاهتمام الذي كان يرتسم على محياهما يدفعك إلى الاستماع " كما أنك تعرفين بأنني مريض، وأحتاج أن أكون قريباً من الأطباء"، وهكذا ـ وبكل بساطة ـ يؤول كل شيء نحو نهاية غير مشتهاة! كتب عليك ـ إذن ـ أن تترك "الجدَيدْة"، التي حفظتها في نبضك والأوردة، وتنسى فخاخك المخبأة طي التراب الرطب والقش المتقصف المبلول وبقايا الروث، فتتأكسد، ويحول لونها إلى أخضر عفن كذاك الذي يغطي الأرض غبّ تحلل الروث بمياه الأمطار، وتهجر أصدقاءك محمد وطه وحسّو! فمن بعدك لمطاردة الثعالب في الليالي المقمرة بين خطوط الفلاحة!؟ ومن ـ بعدك ـ "للغميضة" والركض الحافي على الحدود بين القرى المجاورة والقلب!؟ ومَنْ سيستخرج الفطر من باطن الأرض!؟ يا الله! و"الأحيمر" الذي ما يني يرافقك إلى المرعى مذ وعيت، مَنْ يمتطيه من بعدك!؟ ثم ما مصير "بطاح" رفيق اللعب، وحامي القطيع!؟
الفكرة تلو الفكرة تداهمك، وأنت كما سنونوة تاهت عن سربها، فدهمتها الثلـوج، وعـزّ الملجـأ، وفي ذلـك المدار الغامض لدورة الأشيــاء، راح الخيــط
الأبيض يختلط بالخيط الأسود!
و "الحسكة" هذه كيف تكون!؟
بكل ما التقطته أذناك من أحاديث متفرقة تطوف الذاكرة الذاهلة!
"بيوتها كبيرة، يعلو بعضها فوق البعض!"
كيف ذلك !؟ يلحّ السؤال !
وكيف ينزل ساكنو الأدوار العليا!؟ ثم لماذا يسكن الناس فوق بعضهم والبرية واسعة!؟
"وهي مضاءة بالكهرباء!"
وما هذه!؟
"حتى شوارعها مضاءة بمصابيح كهربائية!"
والشوارع أيضاً!؟
وتروح الذاكرة الواهنة تسيح على شتات الكلمات عن الحوانيت الملأى بالرز والعدس والسمن والسكر والدخان والأقمشة والأطعمة والحلوى والحبال والفاكهة والخضار! مكسورة هي المعادلة داخل الذهن المنهزم، فأين من هذا كله قريتك الخالية من الحوانيت، تنتظر "أبا عبدو الحواج" انتظار العيد، أو الموسم، فإذا أقبل بعربته المغلقة، حاملاً للأطفال السكاكر، والمناديل المصنوعة في "الموصل" للنساء، والدخان للرجال، قفزت القلوب من الفرحة، وتراكض الأطفال من حوله يحلمون،فيما تهوّم الأصوات المتداخلة، لتتكسر على حواف البيوت ونتوءاتها!
"وما أكثر العربات السيارة في المدينة ! بعضها كبير، وبعضها صغير!"
يا إلهي! يقفز السؤال:
كيف يسير الناس في الدروب إذن، ولِمَ لا يملك أهل القرية عربات سيارة!؟
تلوّح بيديك في الهواء، تطرد أسراب الأفكار والأسئلة الملحة، هذه المدينة قناص يقتنص اللحظـــات الهانئة من حياتك، وأبوك مــا ينفك يقرأ في رأس أمك !
"وشوارعها مغطاة بالإسفلت!"
فلا وحل في الشتاء، ولا غبار في الصيف!
وهكذا يسلبونك القرية! مدية فوق العنق، أو عنق تحت السكين! والأشياء الأليفة الحبيبة إلى القلب تنأى، القطيع، وبيت المؤونة حيث الطماطم اللامعة تراودك عن نفسها إثر زيارة الحوّاج، و رفاق الليالي العابثة المليئة بالصخب والمرح! معهم سرقت دجاج الأرملة "أم قاسم"، وانتحيتم ركناً نائياً، تأكلون اللحم، وتخفون الريش والعظام!
اشتعلي أيتها الذاكرة، واستحضري العالم كله، أو انطفئي و اخمدي، فلقد تعب المهر الصغير!
أتذكر ليلة كدنا نحرق محصول القرية!؟
يسألك "إبراهيمو"، حتى لو نسيت، فإن العقـاب الذي طالكـم يبقى وشماً في الذاكرة! الثعلب الملعون جُنّ حينما أشعلتم النار في ذيله وطار ـ ليلتها ـ نحو الزرع! يتوهم المرء بأنه قد نسي! لكنه في لحظة خارجة عن الإرادة، يكتشف بأنه لم ينسَ شيئاً، ذلك أن المخزونات تندفع كطائر حبيس أطلق! وها أنتذا ـ مـع رفاق اللهو ـ في طريقكم إلى بستان "أبي خليل"، معهم ذبحت البطيخ المسروق، ولم توفروا الشمّام والخيار، ومعهم يسوقك الشتاء إلى المدرسة غيمة باردة، تنتابها أحاسيس متضاربة، تراوح بين الوجل والترقّب والرهبة والفضول! يا للمدينة التي لم تكن تخطر في البال! كيف غمرت تلك البليّة عقل أبيك وأمك، وأصبحت شغلهما الشاغل!؟ هي تتساءل، وهو يجيب! هي تتخوّف من الخطو نحو المجهول، وهو يطمئنها، ويهدّئ بالها " الرزق على الله، والمثل يقول مطرح ما ترزق إلزقْ! لن نموت من الجوع، ففيمَ خوفك!؟ الله خلقنا، وهو كفيل بإطعامنا! لن نخسر شيئاً من المحاولة! ماذا سنخسر!؟ هه!؟ أجيبيني ماذا سنخسر!؟ ما الذي نملكه في هذه القرية لنفقده!؟ لا شيء! لا أرض، لا أقرباء، إنهم ليسوا عرباً حتى! لست أدري أيّ ريح مشؤومة حملتنا إلى هذا المكان! حتى لو كنا نملك أرضاً، لذهب جلّ محصولها إلى الآغا، فماذا تخشين بعد!؟" يا الله! طفل أنت، و"الجدَيدْة" أمك ومشيمتك والرحم، فكيف صدر ذلك الكلام عن أبيك!؟ اختلاط غريب في الأشياء يحجب المدى، ويكثّف الزمن في لحظة مشحونة بالأسى والانحراف في البوصلة! أنت خجل من كلامه، وفي سرّك تحمد الله؛ لأن أهل القرية لم يسمعوا ما قاله، ومع ذلك فأنت مدين لهم بالاعتذار! عاتبون هم لو عرفوا، لاشيء لكم في هذه القرية! طيّب، وبيتكم، وقطيعكم الصغير، وحبل السرّة الذي يربطكم بأهلها مذْ وعيتَ!؟ أهلها الذين ما تركوا فرصة إلاّ وأثبتوا فيها حبّهم لكم! والعشرة التي لاتهون إلاّ على أولاد الحرام!؟ و التراب، والزّل، والغَرَب، وشجيرات البطم، والأودية!؟ مسارب القرية وساحاتها، أعراسها، مآتمها، ليالي السمر، والأحاديث الليلية الشائقة!؟ ألا تكفي تلك المفردات كلّها لبقاء السماء زرقاء في سمتها!؟ وإذا لـم تكن تلك الأمـور مجتمعـة تعطـي الإنسـان حسّ الانتمـاء، فـما الذي
يعطيه ذلك الإحساس!؟
لا جواب! نهضت حالة انكسار عاجزة عن النفاذ إلى ما وراء الظواهر! لا شك في وجود خلل! نعم! ثمة قناع يحجب جوهر الأمور، ولكن أين يختفي ذلك القناع!؟
- 3 -
الليل، آهة حرّى، وأسى هاجع تحت صفحة الوجه الساجي!
والقمر، شرخ رقيق في القلب بين قرية وادعة حبيبة، ومدينة مُرتجة على أسرارها!
"الجديدة"، أفق مفتوح على السكينة والهدوء الحالميَنْ، وزورق مُشرع تحت عباءة الليل!
والبيوت، مربّعات سوداء لم تأخذ أبعادها بعد!
وأنت مهزوم غبّ الأحداث الأخيرة، ومنكسر حتى آخر راية! ثمة ـ في الجوف ـ عطب مبهم يعتقل العينين، ويمنع عنهما الكرى! "لمبة الكاز" ترسم ظلالاً باهتة على السقف الخشبي والجدران الترابية! و كشجرة أنهكها النخر وقفتَ منقسماً، تريد أن تحيط بالأشياء لتروي شوقك إلى عوالم أنيسة توشك أن تغيب؛ متمنّياً أن تنقلب الذكريات إلى وشم مطبوع في مدخل القلب، قبل أن تسلس قيادك للأيام، فتمضي بك بعيداً، ذلك أنّ أجزاء القرار قد تكاملت، وغداً، أو ربما بعد غدٍ ستحضر شاحنة لكي تقلّكم إلى المدينة! أعوامك الثلاثة عشر تصرمّت بسرعة لا تلوي على شيء! وهذا السقف المتكوّم فوق رأسك بألفة، يفعل ذلك للمرة الأخيرة ربما، ولكن هل هذا ممكن!؟
نهضتَ، أنت تعرف الدار شبراً شبراً،وكلُّ زاوية فيها تهمس لك بذكريات حميمة! الظلمة سيّد مهاب، وشقوق الباب الخارجي تسرق شيئاً من ضوء القمر! كان زير الماء يتربّع على حامله في الزاوية الشمالية الشرقية للصالة، فيما ألقت يد الإهمال بدلو قديم إلى جانبه، أمّا الحائط الشمالي فتتوسطه كوّة صغيرة راحت تتلصّص على البيادر الشمالية الراحلة بعيداً، ومن غرفة الأهل إلى غرفة الضيافة، فغرفة المؤونة، فالمعلف، كان ذلك البيت يزوّدك بالأمان طيلة السنين التي تصرمّت! رحباً كان وأليفاً، فنما حبه في قلبك نمو عشب يكسر القشرة الخارجية للأرض !
عبر المعلف اندفعتَ إلى الزريبة المتّصلة بالدار، فشعرتَ بقبضة جبّارة تعتصر الجوف! كانت الزريبة خالية، وبدت لك في غبش الفجر واسعة! لعلها لم تكن ـ بالمعيار الموضوعي ـ كذلك! لكنها المرة الأولى التي كنتَ تدخل فيها المكان وهو فارغ! آثار التبن والشعير والروث كانت منتشرة في كل مكان، فيما كانت عيدان الحطب تغطّي السقف المُغبّر، فاستدرتَ لتهرب من تلك الأحاسيس الضاغطة، بيد أنك تفاجأت بأمك وهي تقف خلفك! كانت عيناها تحملان طيف دمعة، بينما كانت أرنبة أنفها تشي بنشيج وشيك، فألقيتَ بنفسك في حضنها هارباً من توحّدك، مشيحاً بوجهك لئلاّ ترى الدمعة المفلتة برغم التماسك، واحتضنتك بقوة، فهل كانت هي الأخرى تهرب من وحشتها وتوحّدها!؟
متأبّطاً وحدتك، فاقداً التواشج مع الزمن كنتَ، وكان الفجر يهيّج في النفس رغبة عارمة في التوجه إلى ساحة القرية ومساربها، لتمرّ على البيوت، والبئر، ومورد الماء، والقبور، والأرض المفلوحة، والبيادر! كلُّ شيء كان يدعوك لأن تراه، وتلمسه لآخر مرة! ومن الأعماق شاط حنين حارق إلى الرعاة يضيعون في رهج الضياء! ولكن أيّ جدوى لتلك الأمنيات بعد أن باع أبوك النعجتين، والكبش، والعنزة الوحيدة!؟
كسوف مفاجئ في الشمس، وخسوف في القلب!
أن تعتلي ظهر "الأحيمر" لتطوف بحـــواف "الزركان" كحـاج، وتنتقل
بين غيضاته وأوديته وتلاله وحجارته وشجيراته وأرضه السبخية، تلك كانت رغبتك الأخيرة الممعنة في النأي! فمن أوصل الأمور إلى الأعتاب الموصدة!؟ ومن دفعك إلى التعلق بحبال السرّة بحثاً عن اندماج تستحيل معه الانفصالات!؟ و هاأنت تكاد أن تجهش، فتلك أشياء لا تخطئها الأذن لندرتها!نعم! إنّه الصوت الأبّح لمحّرك عربة!
وإذن، فقد أزف الوقت!
وبدأ الناس يتوافدون للوداع كأغنيات مبحوحة حزينة! ملتاثاً كنتَ، و مشتتاً، فلم تستطع الإحاطة بتفاصيل المشهد الذي راح يدنو من نقطة اللاعودة حثيثاً! أيدٍ مصافحة، وأخرى تربت على الأكتاف، أو تحتضن القامات والضلوع بشّدة، في محاولة منها لمنع الانفصام المهيمن على اللحظة، أو تأخيره للحظات، والزمن يتشقّق، فتتشقّق معه الشفاه التي تجاهد الكلام من غير أن تجده،ثمّ هدر المحّرك مبتعداً، وبقيت أنظاركم معلقّة بالثلّة البشرية التي راحت تتضاءل، والأيادي الملّوحة التي أخذت تنأى؛ زارعة في القلب انفطاراً وشيكاً، فاعتصرت يداك مسند المقعد بقوّة، وحده"بطّاح" ظل يركض خلف الشاحنة بجنون، وخيلّ إليك أنّ عينيه كانتا تبكيان! وحين غابت اللوحة اليتيمة الممهورة باسم "الجدَيدْة" عن الأنظار، تصاعد نشيج حزين من مركز الذاكرة، واندمجت لوعتك بالمشهد الذي مالبث أن اتّحد بخطّ الأفق!
- 4 -
أيّ سطوة للأمكنة تتبدّى، بحيث تبدو محاولة فصم عرى الاندماج معها معادلة للموت! الزمان هو الزمان أو أكثر قليلاً، لكن المكان اختلف! ولكل مكان بصمته وملامحه, تلك البصمة الواثقة التي تؤكّد ـ في المجتبى الأخير ـ أنَّ النصر صنو الهزيمة في معركة كهذه! صحيح أن ما تصرّم من زمن لم يكن كبيراً, لكنّ ما يجري من حولك كان ـ بكل المقاييس ـ موغلاً في الغرابة! فهناك, في ذلك المدى المترع بالغبار,المتدثر بالنسيان, استلقى الحّي الذي انتهت رحلتكم إليه على كتف تلّة وسيعة, منذوراً لأصابع الهاجرة والإهمال, فنما في خلسة من الزمن, وتوسّع شرقاً, وفي وسطه ارتفع الخزان الذي يمدّ المدينة بمياه الشرب, باسطاً سلطانه على المكان كطائر خرافي هائل!
كانت البيوت الطينية المتناثرة قدام العين بطاقات احتجاج راشحة بالأسى, تستدعي المقارنة بين لوحتين؛ أنْ أين هي البيوت الكبيرة؛ التي كان أبوك يتكلّم عنها!؟ إنْ هي إلاّ أكواخ مهلهلة ترتطم ببعضها,وتستسلم لحواف أزقة متربة؛ شبيهة بعروق شاحبة في جسد منهك؛ فأين اختفت الكهرباء التي تنير هاتيك البيوت, وأين توارت المصابيح التي تضيء أزقّتها!؟
معمّداً بالانخداع الوالغ في الدم وقفتَ تتأمّل الحوش الذي توقّفت الشاحنة أمامه، فيما كّل شيء من حولك يتقصّف وينكسر!
أهذا هو المكان الذي كان أبوك يغزل صورته بمغزل عاشق وله!؟
كــان الحـوش مبنيـاً بحجـارة سـوداء غيـر مليّصـة, فبـدا ـ وقــد عــلاه الغبـار ـ كئيباً وباهتاً, ولم يكن ثمة باب يسدّ المدخل!
ولكن ما الذي أغراكم بتلك المقايضة التي لم تكن تعنّ في البال!؟
كلّ شيء من حولك كان غريباً, غير مألوف, وربما معادياً أيضاً! ذلك أن الدار التي ستطويكم تحت جناحها بدءاً من تلك اللحظة كانت تضمّ غرفة مستطيلة بلهاء، ضيقة وطويلة، تتّصل بغرفة أصغر، ربما كانت في أصل تصميمها مطبخاً! وراحت الألفة المُفتقدة بينكما تكشف لعينيك عيوب المكان تحت ستار مُسبق من الرفض المبطّن! كانت الجدران تنوء تحت وطأة السقف الخشبيّ المحمول على عوارض خشبية، وكانت يد الماء قد خطّت رسوماً غريبة على تلك الأعمدة؛ التي اسودّت بفعل الدخان الناجم عن التدفئة، فازدادت كآبة! أحاسيسك كلها كانت مرهونة لصالح بيت رحب أليف ظلّ هناك،أين منه هذا البيت الموحش؛ الذي يشكو ضيق ذات اليد، ابتداءً بدكّته الإسمنتية التي تنتهي إلى حفرة في الخارج أُعدّت لاستقبال مياه الاغتسال، وانتهاءً بالباب المتداعي ذي الشقوق الواسعة! بيد أن هذا كلّه لن يوازي جزءاً من معاناتك المرتبطة بمشكلة التغوّط، إذْ أن المرحاض ـ الذي عرفتَ اسمه فيما بعد ـ استوى في ركن من الحوش على شكل حفرة في الأرض، متدارياً بزاوية الحوش من جهة،في حين نهضت التلة الترابية؛التي اسُتخرجت من الحفرة نفسها،لترسم ساتره الأمامي من جهة أخرى. وهناك، على بعد خطوات من داركم راحت الأراضي الزراعية تغطّي المسافة الفاصلة بينك وبين أبيك بالأسئلة!
إذن! فمـا الفرق بين هـذا المكـان والقريـة التي تركتموهـا وراءكـم!؟ هناك ـ في القرية ــ كـان الناس سيجتمعون مــن حولكم لمساعدتكم في ترتيب
أثاثكـم، فيما لم يحركّ أحدهم ـ هنا ـ ساكناً! بل أخذوا يراقبونكم من خلف الأبواب المواربة من باب الفضول ربّما! هناك ما كان ليفوت أهل القرية أنكم مُتعبون، وأنّ أدوات المطبخ قد ضاعت بين أثاثكم، فيتسابقون إلى استضافتكم، و إطعامكم، في حين رسم الجيران ـ هنا ـ قطراً لدائرة ما تجاوزوها نحوكم! حتّى التّحية ضنّوا بها! ثمّ ما لبثوا أن أغلقوا أبوابهم، وانصرفوا إلى ما كانوا فيه!
أنت تقرّ ـ مُكرهاً ـ أن هذا الحيّ ليس قرية، برغم علامات التشابه، ولكن أحداً لا يستطيع أن يّدعي التماثل بين ما تراه عيناك، وبين تلك الصورة الموشاة بالألق، التي كان أبوك يرسمها عن القصور الإسمنتية الفارهة،والشوارع النظيفة المُعبّدة،والحوانيت الكبيرة الملأى بمختلف أنواع البضائع، والسيارات التي لا تُحصى، لكي يزيّن لأمك مغامرتكم هذه!
"يا امرأة أطلبي لبن العصفور هناك، وستجدينه في متناول اليد!"
فهل كان أبوك ـ لا سمح الله ـ يغرّر بكم!؟
ما الذي حدا برجل مثله إلى سكنى دار إيجارها اثنتا عشرة ليرة سورية!؟ كانت الدور ـ على حدّ علمك ـ تشاد لسكنى أصحابها، أمّا أن يبني المرء داراً لكي يؤجرها، فأنت لم تكن قد سمعت بشيء من هذا القبيل!
ومن غير أن تشعروا كان الليل قد أرخى غطاء معتماً على الكائنات، فأفسحت أمك مكاناً لنومكم وسط الأثاث المتكوّم بفوضى عجيبة! استلقيتَ فوق فراشك الجديد! كان التعب قد تسلل إلى الأعصاب المشدودة، التي نال منها السفر والقلق، موهناً محطات التماسك، فتوزّعت الأعضاء المُنهكة على أجزاء الفراش، تطلب راحة مرمّمة للخلايا، لكن النوم ـ بعكس ما هو مُتوقّع ـ أخذ ينأى، وراحت الغرفة الضيّقة تضغط على الأعصاب، وشعورك بالعزلة يسفّ روابي النفس العزلاء!
أهي الغرفـة ضيّقـة إلى ذلك الحّد ، أم أنـه القلـب يضفـي علـى الأشيــاء هواجسه ومخاوفه وانكساراته!؟
تساءلتَ، وهرباً من ألم مفترس لا يعرف الرحمة أو المنطق،أخذتَ تتأمّل الأشياء التي كانت تتراءى ضائعة،ذلك أن بضع ساعات – فقط - كانت قد انقضت على رحيلكم عن القرية،لكنّ صورتها ـ برغم الإلحاح ـ أخذت تستعصي على الحضور، فتسرب الخوف إلى أعماق النفس المكروبة يرضّها!
أيمكن لنا أن ننسى بهذه السرعة!؟
انبثق السؤال في الجوف يمور ويؤلم ، لكن ما يحدث، راح ـ ككّل جديد ـ يفرض سياقه الخاص،وفي وقت متأخّر من الليل؛ تغلبّ التعب على الأسئلة القلقة المحتشدة في الرأس، فذهبتَ في نوم مضطرب مُثقل بالكوابيس!
- 5 -
يوماً بعد يوم كانت معرفتك بالمكان الجديد تزداد، لتنتقل العلائق إلى فضاء القبول المضمر! لم يكن ما يحدث بينكما توافقاً، بل كان نوعاً من الهدنة المفروضة عليكما، ربما لأن سفنك كانت تسير بعكس الرغائب، ولم يكن في الإمكان الإعراب عن احتجاج صغير يضّمد العجز المحسوس في الداخل!
غصنٌ ما كان مزهراً في الأعماق، بيد أنه تيبّس! قد يكون أشعة الطفولة التي أخذت تنضج، وتنتقل ـ قبل أوانها ـ إلى عالم الكبار! وقد تكون غربة داخلية أخذت تنمو، وتعتصر كل ما هو غضّ فيك، إلاّ أنك لم تكن تملك غير الاستمرار، فابتداءً بزقاقكم القصير الذي كان ينحدر من الشمال إلى الجنوب بشدة، وانتهاءً بالإعدادية التي فغرت بابها الحديدي البارد لابتلاعك؛ كان كل ما حولك يضغط، وينكأ الجراح الصغيرة!
كان الصف الذي استقبلك ببرود وتجاهل إحدى تلك المنغصات، فلقد انتظم في نسيجه خليط عجيب من البشر ضمّ أبناء الريف إلى جانب أبناء المدينة، ليعسكوا سلوكاً متبايناً تباين الأصول المختلفة التي قدموا منها! وكان التلاميذ القادمون من الريف ينتبذون بأنفسهم زاوية نائية من ساحة المدرسة؛ هرباً من السخرية التي كانت تسحب ظلها على المدرسين والموجهين والتلاميذ، لكن التعويض لا يلبث أن يطّل برأسه عبر التفوق في الدراسة؛ على أساس من التحدي والتحدي المضاد ربما، ولكن شتّان بين التحديَيْن،بين الفجّ المشاكس والهــادئ الحيّي، إذ هـاهـو الأخير ينجح في وضع حــدٍّ لغرور خصمه اللدود، وينتزع منه اعترافاً متذمراً بشرعية وجوده!
الجغرافيا بفضائها الملغّز، وأرضها المحيّرة، وأسمائها العصية على التذكّر، رسمت ـ بدورها ـ دائرة مرصودة حولها، فنشأ بينكما جفاء غريب، من غير أن تتبين طبيعة ذلك الجفاء أو منشئه، فإذا تصادف درس الجغرافيا ذاك مع الساعات الأخيرة من الدوام، فاض بك الكيل، ذلك أن الضغوط التي تنفر من شقوق الملل تتضافر مع استغاثات المعدة الجائعة، وسطوة النعاس، فيضحي التوفيق بين تلك الهزائم الصغيرة، ونظرات المدرّس الصارمة مشكلة بالغة الصعوبة! هذا إذا لم تتدخل عصاه في حل الإشكال الصغير بدلاً من عينيه المتربصّتين! وهاهو الجوع يضغط، والحركة في الجسد الغضّ تطالب بمجالها الحيوي، فيما ينقل السأم مشاعرك إلى خانة الإحباط، فتبدو تلك العذابات الصغيرة بلا نهاية، لكنّ المربع البليد يطلق سراحك أخيراً، فتتنفّس الصعداء، وتتخذ سمتك نحو الجسر الذي يصل حيكم بالبلدة! كان ذلك الجسر يفرض ضريبته على المارة، فلقد كانت السيارات التي تعبره تَشمُ أولئك المارة بنصيبهم من الغبار صيفاً، وحصتهم من الطين المتطاير عن عجلاتها شتاءً! غبّ الجسر كانت أقدام التلّة التي يربض عليها الحي تنهد بك إلى خاصرة ساقية؛ لتستريح بجوارها بعضاً من الوقت، متلهياً بالتطلّع إلى كوخ المجنونة "مارين"، المستلقي بإزاء خزان الماء كعلامة فارقة، فتتداعى لحظات اللهو الحمقاء متّكئة على عبث طفولي فظّ، إذْ ما تكاد المسكينة تصل إلى كوخها، إثر جولتها في أزقة البلدة، حتى تهاجمونها بقسوة، ليشهد المدى الممتد بينكم معركة حامية سلاحها الحجارة والشتائم، فلا تجــد فرصة للهدوء والراحـة غبّ يوم مـرهق! أمّا مـن هـي "ماريــن"!؟ ومن أين جاءت!؟ ومـن الذي أطلق عليها لقب "سيبورة"!؟ هل لها أقارب مثلاً!؟ فإنّ عالم الطفولة الشقية ما كان ليأبه بمعرفة الأجوبة،ثم أن أحداً لم يكن ليستطيع أن يضيء تلك البقع المعتمة من حياتها! أطفالاً كنتم، وما كان لشيء أن يقف في طريق لهوكم!وحين كانت "سيبورة" تمضي جلّ نهارها متنقلة من زقاق إلى زقاق؛ مسبوقة بثيابها الرثة المتباينة الألوان، كان الطريق يقودكم إلى كوخها لتلصّوه، إلا أنكم ما كنتم تعثرون على أي متاع خَلا دكّة خشبية قليلة الارتفاع، يعلوها فراش رثّ مغطّى بقطعة جلد صناعيّ تمنع عنه البلل، فيركبكم الحنق، وتروحون تبعثرون متاعها الزهيد، ثم تتخفون في انتظار عودتها! إنكم تتحرقون شوقاً لمعرفة ردّ فعلها على مزاحكم الثقيل، وهي توشك على إنهاء جولتها، ربما لأن بضعة قروش قد انتهت إلى جيوبها، لكنها تتفاجأ بالأثاث المتناثر حول الكوخ، فتتلفّت حولها، وهي تشتمكم في أصولكم والفروع، إنها تعرف بأنكم متخفوّن في مكان ما، لكنها لا تعرف أين! فتنتظر متربّصة لأنها متأكّدة بأنّ أحدكم سيفقد السيطرة على نفسه، وتفلت منه ضحكة مكتومة تدلّها على مكانكم، وعندها ستنخرطون في معركة جديدة غير متكافئة؛ لا يعلم نتائجها إلاّ الله!
كان سكان الحيّ يشكّلون خليطاً غير متجانس، بعضه يستمدّ دمه من نزيف ريفيّ مستمّر عن المناطق المجاورة، في حين تضخ المحافظات الأخرى بعضه الأخر، ولم يكُ الأمر ليخلو من ملامح غير واضحة لتجمّع منسجم القوام عندما يكون ذلك متاحاً! أما غالبية سكان زقاقكم فكانوا قد قدموا من ريف "حلب"؛ هرباً من الحاجة التي سرقتهم من قراهم، وبعثرتهم "كحواجين" في المنطقة الممتدة بين "الحسكة" و "الموصل"! وكان البقية يتوزعون على أعمال موسمية كما هو حال المناطق الزراعية عادة، فلقد كان قسم منهم يعملون كعتّالين في موسم القمح أو القطن، فيما اتكأ البعض منهم على شهادة محو الأمية للعمل كمستخدمين في المدارس والدوائر الرسمية، أما الذين حُرموا من هذه وتلك، فلم يجدوا بدّاً من تحويل غرفة من غرف دورهم إلى"دكاكين"؛ أخذوا يبيعون فيها شيئاً من الخضار أو السكر أو الصابون، من غير أن تنقطع أواصرهم بالقرى التي انحدروا منها تماماً، إذْ أنّ بعضهم كانوا قد تركوا وراءهم قطعة من الأرض؛ راحوا يستثمرونها بأنفسهم أو بوساطة مزارع!
وسط ذاك الخضّم أخذ أبوك يتفكّر في مهنة مريحة؛ تعينه على العيش من جهة، ولا توهن قلبه المريض من جهة أخرى، فقلّب الاحتمالات على وجوهها،بيد أنها لم تكُ تخلو من وجه كالح لا يتناسب ووضعه الصحي، ولمّا لم يقع على جواب مناسب، هدته أمك إلى الحلّ، فلم ينتظر طويلاً، بل عمد إلى باب الحوش يوسّعه، ثُمّ بنى بجانبه ـ من الداخل ـ ثلاثة جدران، ورفع فوقها شمسية من أكياس الخيش المشدودة إلى عوارض خشبية، وأخذ يعرض فيها الخضار نهاراً، أمّا في الليل فكانت أمك تعمد إلى إدخال بضاعته خشية أن تُسرق، إذْ لم يكن ثمة باب لدكانه!
بتعثّرٍ كان الرجل يبحث عن ظلّه، ويحاول أن يمسح عن حياتكم الصدأ، في انتظار الأيام الحبلى بالتوقع!
- 6 -
شيئاً فشيئاً كانت التفاصيل تنمو، وتنفتح لك مغاليق المكان، ويتكامل المشهد في المخيّلة، فعند تزاوج "الخابور" بـ "الجغجغ"، أو قبله بقليل؛ انزوت البلدة على استحياء؛تخفي ضآلتها وصغر سنّها بين المدن القديمات! كان الأول يتقدّم من الشمال الغربي، ثمّ ينعطف شرقاً ليخطّ حدودها الغربية والجنوبية،بينما كان الثاني يتهادى نحو الجنوب مترسماً تخومها الشرقية!
وفي أصل من ذاكرة الكبار كانت "الحسكة" مجموعة بيوت قليلة العدد، اجتمعت على خدمة الثكنة العسكرية؛ التي ابتناها الفرنسيون على شاطئ "الخابور"، غير أنّها اليوم تتمدد داخل أضلاع مثلث وادع؛ ضلعه الأول يمتد من ثكنة الهجانة غرباً، وحتى الثكنة العسكرية شرقاً، مروراً بالسجن، ودار المحافظة، أمّا ضلعه الثاني فيتّخذ سمته من ثكنة الهجانة جنوباً، لينطلق نحو ملجأ عسكري؛ بناه الفرنسيون على شاطئ "الجغجغ" شمالاً، في حين يعتقل الضلع الثالث ـ الذي ينطلق من ذلك الملجأ باتجاه الجسر المبني على نهر "الجغجغ" ـ المدينة، متمّماً دارة ناقصة تتخلّلها الفجوات غير المبنية بعد!
قد لاتكون المفردات كثيرة، بيد أنه لاشيء يستطيع أن يغيب عن الخطا اللاهثة وراء تفاصيل جديدة تضمّها إلى مخزونات الذاكرة، إذْ هاهي الأقدام تلوب في الأحياء الثلاثة التي نمت حول البلدة بسرعة؛ مستمدّة نسغها من نزوح ريفي لاينضب! إلى الشرق، وعلى الطريق الذاهب إلى "الهول"، فالحدود العراقية؛ كان حي "العزيزية" يتكوّم بإهمال وكسل، متطلعاً إلى اللحظة التي يُخدَّم فيها كالبلدة! وإلى الشمال من المركز كان حي "تل حجر" يرمق البلدة بعين حاسدة، ربما للسبب ذاته! أمّا إلى الجنوب، فقد ترامى حيّ "غويران" عند أقدامها، مستأثراً بالعناية والتنظيم، ربما لقربه من البلدة، أو لأنّ غالبية الموظفين القادمين من المحافظات الأخرى كانوا يستقرون فيه!
ثم راحت الأيام تتصّرم، وبتصرمها أنشأ المكان ينتقل من مناخ المهادنة إلى مناخ القبول تدريجياً، بحيث لم يمض وقت طويل حتى أخذتَ تقرّ بأنك تعلمت الكثير من الأشياء فيه! فأنت لا تنكر بأنّ أترابك في الحيّ هم الذين علمّوك السباحة، وإذا كانت المسألة تبدو عادية اليوم، إلا أن اللحظة الأولى ـ التي استطعتَ أن تضرب الماء فيها بيديك وقدميك ـ ستظلّ لحظة استثنائية مطبوعة في ذاكرة الطفولة! حدث الأمر ذات صيف، ولذلك فإنك تنتظر الأصياف المدهشة بفارغ الصبر! ثم أليست تلك الأصياف هي الفصول التي تغلق فيها المدارس أبوابها!؟ أما كيف وقعت المعجزة، فأنت لم تعد تتبين الأمر بوضوح! مرعوباً كنتَ، وكنتَ ترفض الخوض في الماء، وإذا امتدت يد أحدهم إليك ممازحة، تراجعتَ هلعاً، بيد أن التكرار والتشجيع أفقداك حذرك تدريجياً، وشيئاً فشيئاً أخذت تخوض في أماكن أكثر عمقاً! في ما بعد طغت رغبتك على الوجل والتردد إلى أن طفوتَ! ولم تصدق ما حدث ابتداءً، لكن المحاولة الثانية أكدّت لك حقيقة ما حصل، فخفق قلبك الصغير من الفرحة!
كانت كرة القدم معروفة في القرية أيضاً، بيد أن الكرة التي كنتم تلعبون بها ـ هناك ـ كانت عبارة عن لفائف من الأقمشة البالية، بحيث لم تكن قابلة للدحرجة الحرة، كما أنها سرعان ما كانت تتفكّك بفعل الركل، وعليه فأنت مضطر للإقرار بأن الفضل في انضمامك إلى فريق كرة القدم؛ إنما يعود إلى أترابك في الحيّ، وأنك تجرّعت ـ مع هؤلاء الأتراب ـ مرارة الهزيمة، كما تذوقّتَ معهم حلاوة النصر، فأخذ اندغامك بالمجموع يتنامى شيئاً فشيئاً! لكن ما أذهلكم عن أنفسكم تماماً؛ كان يوم أن اكتشفتم صالة السينما المعتمة، فهناك، في تلك الصالة المدهشة تفتّحت حواسكم على عوالم بالغة التنوع والغرابة، عوالم حالمة رهنت أفئدتكم لمصلحة حالة من التماهي العجيب، فأخذت أبصاركم الحائرة تتابع مصائر وحيوات أبطالكم الُمحببّين بجوارح الطفولة البريئة؛ التي لم يُخطّ عليها الكثير بعد! ليسجل المؤشر في خوافقكم تمزّق الأحاسيس بين العواطف والأهواء المتباينة والمتناقضة! إلا أن ذلك الهوى ـ الذي كان في طريقه إلى الإدمان ـ كثيراً ما كان يصطدم بصعوبة تأمين ثمن التذكرة، فيفوتكم أن تروا "عنترة بن شداد" وابنة عمه "عبلة"و"هرقل الجبار" و"أوليس" و "طرزان"، وقردته المدهشة "شيتا"! ثم أنكم لستم مشاهدين سلبيين، إذْ قد يحلو لكم أن تعيدوا تشخيص ما استأثر بألبابكم على الشاشة البيضاء، فيروح أحدكم يتقمص دور "طرزان"، ويتوارى خلف نبتات السوس والإثل المنتشرة على ضفاف "الجغجغ"، بانتظار أن يجيء الوحش! وربمّا عنّ لكم أن تنقسموا إلى معسكرين متناحرَيْن، يضم الأول البطل ورفاقه على قلتهم، بينما يضم الثاني الملك الشرير وأتباعه، فتقعقع السيوف المصنّعة من الأطواق التي تُلفّ بها أكياس الخيش، والتروس التي كانت في الأصل قطع صاج دائرية أو بيضوية، في حين تتكفل الأشرطة المطاطية بحلّ مشكلة الأقواس والسهام! تشتد المعركة، فيزخ عرق الطفولة، وتقفز القلوب الغضّة عن الصدور، لكن النصر يمشي في ركاب البطل من كلّ بدّ، ذلك أنّ النهاية في الفيلم جاءت على تلك الصورة! والآن!؟ كيف تتدبّرون ثمن التذاكر!؟ تتفكرون، وتشبعون الموضوع تفكيراً، وتيأسون، وتكاد خطاكم الغضّة أن تتفرّق يائسة، إلا أن الحلّ ما يلبث أن يومض في فضاء الذاكرة! فهناك، بإزاء الدرب المتلوّي في طريقه إلى جبل "كوكب" كانت قمامة المدينة تنهض على شكل تلّة وسيعةغير مُنتظمة؛ يطلق عليها أبناء الحيّ اسم "الزبالات"! إنّها المكان الوحيد الذي يمكنه أن يمدّكم بثمن التذاكر !هناك،كنتم تجدون أكواماً هائلة من القمامة التي تضمّ خليطاً عجيباً من قشور البرتقال والطماطم المتعفّنة، وقشور التفاح والموز، وفضلات الأطعمة، ونوى التمر، والورق المُستهلك، والزجاج المكسور الذي كان يغطّي النوافذ أو الأبواب، والزجاجات الفارغة، والكؤوس المكسورة، والأواني النحاسية، أو تلك المصنوعة من "البافون"، وعلب الأدوية الفارغة، وبقايا الخضار والأحذية الجلدية أو البلاستيكية، ومزق الثياب، والمصابيح الكهربائية التي كانت تنير الشوارع والبيوت ذات يوم، وأعقاب السجائر،والأدوات البلاستكية التي لم تعد صالحة للاستعمال، وبقايا الحبال والقنّب! كان الرماد يغطّي كل شيء، وأسراب الذباب تسدّ الأفق، بيد أنّكم ما كنتم لتأبهون بها، ولا بالرائحة الكريهة المنبعثة في كلّ اتجاه، فما يهمّكم من ذلك الخليط ، يتلخصّ في آنية نحاسية، أو مداسات بلاستيكية كانت تعطيكم بطاقة مرور إلى صالتكم تلك!
لم يكن حجم القرية، ولا طبيعة العلاقات بين أهلها تحيجهم إلى تكتلاّت كتلك التي عرفتها في البلدة، حيث الناس لا تعرف بعضها البعض، وحيث الميول والمشارب والأهواء والبيئات تختلف، لينضوي صبيتها تحت راية عصابات صغيرة بحسب أحيائهم، عصابات تضع حماية الحّي من صبية الأحياء الأخرى نصب أعينها! صحيح أنّها قد تتجاوز حدود تلك النوايا بفعل الإحساس بالقوة، لكنها ـ في النهاية ـ تتواضع على خطوط عامة لا تتخطّاها غالباً، فهي لا ترى تثريباً في التقاط بعض من أعقاب السجائر داخل صالة السينما المظلمة ، أو التسلّل نحو شاطىء "الجغجغ" من أجل السباحة في مياهه المالحة ، أو توجيه ضربة تأديبيّة ضدّ عصابة من عصابات الأحياء الأخرى، بيد أنّها لا تسمح بالسرقة، أو الإقدام على عمل مشين مثلاً!
وهاهو اليوم يمضي قدماً نحو نهايته،ولم يبق شيء يستطيع أن يبعث في نفوسكم الإحساس بالنشوة والسرور؛ لم تقدموا على اقترافه تحت ضغط الإحساس الطفولي بالحياة، وحان وقت عودتكم إلى بيوتكم التي غبتم عنها طويلاً! لكن مشكلة صغيرة تعترض تلك العودة، وتهددّ متعتكم بنهاية غير سارة، إذْ من يقنع أمهاتكم بأنكم لم تسبحوا في مياه "الجغجغ"، بعد أن تركت بصماتها المالحة على شعوركم وسراويلكم الداخلية!؟ وما السبيل إلى إقناع أولاء الأمهات بأنكم كنتم تلعبون في الظّل، بعد أن وشمت الشمس جلودكم الغضّة بوشمها!؟ بل ما الطريقة لإقناعهنّ بأن الجروح التي خلفّها الزجاج المكسور في أقدامكم، أو أيديكم وقعت لكم في مكان آخر؛ لا علاقة له "بالزبالات" المحظورة عليكم !؟ وهرباً من تلك الأسئلة الممضّة التي ما كنتم تلاقون لها إجابات فورية، فإنكم ما كنتم ترون بأساً في قضاء بعض من الوقت عند السيد "علو "! و "علو" ـ هذا ـ رجل في نهايات العقد الخامس من عمره، لا يعلم أحد ـ على وجه التحديد ـ من أين جاء! كان شعره المصفّف إلى الخلف يتكشّف عن الجبهة قليلاً؛ يخالطه شيءً من البياض، فيما كان وجهه المكرمش يشي بآثار الزمن! بيد أنّ العلامة المميّزة التي أعطته شهرته الواسعة تلك جاءته من شاربه الطويل المعقوف نحو الأعلى! ذلك أنه كان يبذل الكثير من وقته وعنايته لذلك الشارب، فيروح يصففّه، ويدهنه، ويتأمله بكثير من الإعجاب، بحيث راح البعض يراهن على أنّه يدهن شاربه بالسمنة العربية، في حين راح البعض الآخر يقسم على أنّه يدهنه بدبق التمر!
كان "علو" يلحم صفائح الجبن المُملّح للناس، فيدفعون إليه ببضعة قروش تقوم بأوده، ورغم أن قصته تبدو عادية في حيثياتها، إلاّ أنه بقصد منه، أو من غير قصد، كان قد دفع بالأمور إلى حدودها القصوى، فهو لم يكن يقيم في دار كبقية خلق الله، بل اتخذّ من المحرس العسكري الذي بناه الفرنسيون عند جسر "الجغجغ" مسكناً، ولم يكن لداره تلك نوافذ بالمعنى المألوف للكلمة، إذْ استُبدلت بشقوق طولانية تمكّن المتمترس في الداخل من النظر! كما لم يكن لها ثمة باب، بل فتحة ضيّقة منخفضة كان "علو" يسّدها بلوح من التنك في الليل! وكان الدخان الناجم عن اللحام يغطّي الجدران؛ باسطاً ظلّه على المتاع النزر الزهيد! بقي أن تأتي القصة على تتمّتها، وتحاول أن تجيب عن السبب الذي حدا بالأمهات إلى تهديد أولادهن بذلك المسكين، من غير أن تستطيع إحداهنّ أن تقدّم تفسيراً مقنعاً لتلك النقطة! ألأنّ الرجل كان يربّي مجموعة من كلاب الصيد في كوخه مثلاً!؟ أم لأنه كان غامض الهوية للناس، مجهول الماضي!؟ هل كان " علو" صياداً قديماً؛ يدفعه هوى متأصل إلى تقديم كلابه على نفسه في المأكل والمشرب!؟ لكن تلك الأسئلة ستظل سرّاً مستعصياً على الناس، ربما لأن أحداً منهم لم يكن قد كشف في الرجل ما يضير، بل أنه على العكس كان كثير المزاح، محبّاً للأطفال، وكثيراً ما ارتفع صوته بأغان تركية رخيمة، فهل كان " علو" تركيّاً ألقت به يد الترحال على ضفة " الجغجغ"، أم أن الأيام العاتيات هي التي بعثرت فقرات عمره بتلك الطريقة!؟ بيد أن الوقت أخذ يتأخر، ولم يبق أمامكم إلاّ أن تعودوا إلى دوركم، إذْ ليس من المعقول أن تبيتوا ليلتكم في الكوخ، ولا بدّ من المجازفة! ثم أنكم متيقنّون ـ في النهاية ـ من أن قلوب أمهاتكم ستلين، وعندها فإن تلك القلوب ستميل إلى تصديق أكاذيبكم برغم المظاهر المكذّبة، فتعودون، وأنتم ترددون في سرّكم أن لا بدّ مما ليس منه بدّ!