أريج الطّهر

أريج الطّهر

كان كعادته منذ أيّام يراقب خطواتها وهي في طريقها إلى البيت بعد أن تقضّي يوما دراسيّا مزيجا من تيقّظ الذهن وتأجّج المشاعر وتفّتح الجسم مع شيء من الرّتابة والملل...في منتصف الطّريق تنتصب شجرة أكسبتها سنوات عمرها الطويلة هيبة وجلالا...إنها الشاهدة الصّامتة على قصص و أسرار كثيرة أودعها فيها دون قصد بعض المستظلين بظلها أو المتستّرين بأحضانها...كانت ليلى تحبّ هذه الشجرة حبّا عميقا فهي كلّما أحسّت بعناء السّير، تسند ظهرها على جذعها فتشعر وكأنها بين أحضان أمّها التي فقدتها منذ طفولتها المبكّرة...لم يكن أكرم يعرف عن ليلى شيئا يذكر، فكلّ ما يعرفه هو قدّها المعتدل ومشيتها المتّزنة ،لقد أسَرَت هذه المشية قلبه الطيّب الرقيق بما تحمله من حياء وكبرياء معا...

من نافذة غرفته الصغيرة كان يحدّق صوب الشّجرة... ها قد وصلتْ...لقد صمّم هذه المرّة على أن يتخلى عن بعض حيائه ويدقّق في ملامحها...فرك عينيه...حاول أن يفتحهما أكثر فأكثر...لا بدّ من التّركيز...ازداد قلبه ولَهًا ...كَبُرت في عينيه ...وظلت تكبر وتكبر...تلاشت الخطوط والأشكال...بهتت الألوان...أحسّ بضباب يلفّ عينيه...أين ليلى؟ صارت مجرّد شبح في عينيه المترقرقتين بالدموع...مسح بإحدى يديه ما سال على وجهه من ماء كاد يغلي..ثم رفع رأسه فرمق من الجانب الأيسر للنافذة شيئا ضئيلا من خيالها وهي تختفي عن بصره...

أمضى ليلته في أرق شديد بين ألم الشّقاء وأمل الشوق..لقد كتب رسالة بثّ فيها ما استطاع أن يخطّه من بعض مكنوناته ويوميّات حبّه الصّامت...قرأها مرّات ومرّات وظل يردّد كلماتها حتى بعد أن وضعها بجانب الوسادة...

في الغد وقبيل وصولها تسلّل إلى الشّجرة وعلّق عليها رسالته ثمّ مكث خلف النافذة ينتظر وخفقات قلبه تزداد سرعة وقوّة كلّما اقتربت ليلى من المكان...يا إلاهي !...ماذا يجري؟ الرسالة تترنّح ...تطير لتلتقطها الشّجرة بأحد أغصانها في حنوّ بالغ...لقد تحرّك الهواء فجأة والرسالة لم تكن مثبّتة بشكل جيد بسبب استعجاله وارتعاش يديه ...أحسّ برجّة في قلبه سرعان ما سرت إلى كلّ أنحاء جسمه حتّى كادت تشلّه... يا إلاهي !...ماذا يحدث؟ ليلى تحتضن الشجرة ...تعلّق شيئا أبيضا كأنه ورقة وتختفي في لمح البصر...ما أقساها على النّفس من لحظة يجتمع فيها الألم والأمل..طار إلى الشّجرة...رمق المعلّقة بعينين جاحظتين ...لقد كُتب عليها :" أحبّك يا أملي...غدا نلتقي هنا" ...ما أروعها من معلّقة ببيت واحد ... الحبّ والنّداء والأمل والغد واللّقاء وقداسة المكان...فرّ أكرم إلى غرفته كما يفرّ الطائر السّجين من قفصه...قفز كالمعتوه عدّة قفزات قبل أن يتمدّد على فراشه...غنّي يا قلب غنّي ...يا كون أصغ لفنيّ...ليلاي أحلى الأغاني ..وهْيَ كُلّ التمنّي... "أروع القصائد لا تساوي شيئا أمام أيّ كلام يقوله رجل تحبّه امرأة"

في الغد، على غير عادته لم يفتح أكرم دكّانه لبيع شتائل الأشجار...كان يهيّأ نفسه لعرس اللّقاء المهيب ...حان الموعد...وصلت العروس ...مشى نحو الشجرة بخطوات مرتجفة ولكنه يحاول جاهدا أن يثبّتها...عيناه ترقصان دون أن تفقدا مسحة الحياء المعهودة...شفتاه ترتعشان في ابتسامة من نور...كلّ شيء فيه مازال بكرا...مازال يحتفظ بكل سحره ونُضْرته... تهلّل وجه ليلى بالبِشر والبشرى وصرخت بصوت متلّهف يكاد يختنق...مكرم...حبيبي...أحسّ بصرخة تنسلّ من أعماق أعماقه...ولكنها سرعان ما تسمّرت بالحلق...غصّة من حنظل ...فقد دوّت خلفه صرخة طليقة النّبرة واثقة الإيقاع...ليلى...حبيبتي...بالتفاتة سريعة وقع بصره على جاره مكرم وهو في عزّ سعادته وإشراقه... في تلك اللّحظة العسيرة تجمّعت في قلبه كلّ قيم النّبل والطّهارة والوفاء...احتضن جارَه بكل صدق قائلا :" بُورك لك هذا الحبّ يا أخي مكرم"...خطف نظرة سريعة إلى وجه العروس لا يعلم سرّها إلا الله ومضى وفي عينيه دموع تأبى أن تسقط...

تحرّكت أغصان الشّجرة كأنّها تكتب شهادتها على حبّ طاهر شريف ثمّ حوّطت العروسين بأوراقها وظلاله