كبت داخل ''الكَـبـَتْ''

قبل كل شيء "الكَـبـَتْ" باللهجة الكويتية هو خزانة الملابس.



تعودت "هنادي" منذ نعومة أظفارها أن تنزوي عن العالم الخارجي، وتتقاسم أفكارها وكبتها داخل "الكَـبـَتْ" مع ملابسها التي لا تكاد تتعدى أصابع اليد الواحدة، تدخل فتختلي بنفسها بمنأى عن والدها الذي يعود كل ليلة مترنحا وقارورته تخط الحائط خطا لتشكلّ إيقاعا نشازا مع صوته المبحوح، تسمعه يصرخ على أمها وينهال عليها ضربا باليمين وبالقارورة بالشمال حتى تتناثر أشلاؤها على رأسها، وبعدها تتشرب السجادة بقيئه المخلوط بالخمر الرخيص الذي يبتاعه بأبخس الأثمان، ثم يسقط أرضا فينهق في نومه نهيقا حتى الصباح.



تتسلل هنادي -ذات الستة عشرة ربيعا- حين تصحى من "كَـبـَتْها" لتراقب إذا ما كان الطريق سالكا وخاليا من أثر والدها الذي سحبته أمها المسكينة لترميه في سريره، لتجد رأسها ملفوفا بقماشة بيضاء ممزوجة باللون الأحمر وهي منهمكة في تنظيف بقايا والدها من على السجادة، فلم تستطع في ذاك اليوم أن تقبل ذاك الرأس الحاني الذي لطالما تكبّد عناء الضرب، وقالت لها بسرعة "صباح الخير أماه"، فردت الأم بصوت مجهش "صباح الن.. نور يا ابنتي"، وأخذت تبكي وأشارت إليها بالاقتراب، وضمتها إلى صدرها ضمة أمّ أثخنتها جراح السنين وأصاب قلبها سهم الحظ العاثر، وما فارقتها إلا عندما رأت الساعة القديمة تشير إلى اقتراب موعد المدرسة، أطلت في وجه ابنتها وقالت بحنان " هيّا بنيتي، إلى المدرسة .. لتكوني خيرا مني ومن والدك -سامحه الله-"، فخرجت يعتصرها الغضب واليأس على ما يفعلها أبوها وعلى ضعفها، خرجت تركض خوفا من العقاب الذي سينتظرها في حال تأخرها.



وصلت بشق الأنفس في الوقت المناسب، وفي طابور الصباح، بدأت المدرسات في البحث عن المخالفات، من أولئك اللاتي يلبسن ملابس مخالفة أو ممن تضع المساحيق أو ممن تربي أظفارها، فوقفت عندها "سمر" تلك المدرسة الشريرة -على مزاعم الطالبات-، فلم تجد عليها ممسكا، ولكن عند اقترابها، قامت بشمّها فنهرتها بأبشع الأوصاف، وأوقفتها بمنتصف الساحة وقالت "يبدو أن زميلتكم لم تستحم منذ شهر"، فأخذن يضحكن عليها بصوت عال ٍ، وهي تقف بلا حراك وعيناها المغرورقتان تحاولان ألا تصادف عين أيّ من الشامتات، فسكتت على مضض وعضت على شفتيها عضة طفل محروم من لعبته، فانسحبت إلى "كَـبـَتْ" موجود في القاعة الرياضية، لتحاول نسيان يومها العصيب، تقاطرت تلك القطرات على ركبتيها المتشققتين من الجفاف، وبقت حتى نهاية اليوم تتاجذب أطراف الحديث مع تلك الجدران الحديدية لعلها تسمعها وتفهم أحوالهم.



انسلت بعد الجرس بين الطالبات لتفرّ إلى بيتها، دخلت البيت فوجدت أباها قد صحى من نومه وعيناه حمراوتان، وعندما رآها صرخ بها "أحضري لي قرصين مسكنين من الثلاجة فرأسي يؤلمني كثيرا"، أحضرت له القرصين فصاح مرة أخرى " أين كوب الماء أيتها الـ ..." وضربها حتى أسال دماءها من وجهها وأغمي عليها، تركها وخرج من البيت دون أن يبالي قائلا "لا فائدة ترجى منكن"، وبعد فترة وجيزة دخلت الأم لتجد ابنتها مضرجة فأسرعت بطلب النجدة، ساعدها شاب كان مارا فأخذها إلى المستشفى، وبعد أن تم إيقاف النزيف واستقرت حالتها، رفض الطبيب أن يصرح لها بالخروج، وطلب الشرطة لكي تحقق في أسباب هذه الإصابات، وفي أثناء التحقيق أنكر الأب أن تكون له يد بالموضوع، وأن ما حصل هو محض حادث؛ إذ ربما سقطت من على الدرج وأكدت الأم هذا الكلام بصوت خفيف بعد أن رمقها الأب بنظرة مرعبة، ولكن الشاب الذي أصر على معرفة السبب سأل أحد الممرضين الذي أخبره بالأمر، فاستغرب في خلده؛ إذ لم يكن هناك درج في المنزل!، فقرر أن يواجه الأب الذي لم يتوانَ في إبراحه وطرده من المنزل، فقرر أن ينتقم لتلك الفتاة البريئة.



في المساء لحق به إلى وكره الذي يعاقر فيه ذلك السم، وانتظر حتى يغط في سكرته، وفي الوقت المناسب، انتهز الفرصة، واقتحم المكان بمن فيه، وسحبه إلى مركز الشرطة بعد أن أوجعه بلكماته، وأودعوه السجن إلى أجل مسمى، وبعدها تقدم لخطبة هنادي من أمها التي وافقت بشرط أن تكمل دراستها، وبعد سنتنين من الخطوبة، خلالهما انتحر الأب في زنانته شنقا، أقيم زفاف بسيط بحضور ليس بالكثيف، لتنتقل هنادي إلى بيت الزوجية، وفي الليلة المنشودة اختفت هنادي، بحث عنها زوجها في فلم يجدها، اتصل بأمها مذعورا، فضحكت أمها وقالت "ابحث عنها في -الكَـبـَتْ- فستجدها هناك"، أقفل السماعة وسارع ليفتح "الكَـبـَتْ" ليجدها نائمة بهدوء، أيقظها بربتة على كتفها، فتحت عينيها فابتسمت بحياء "آسفة يا زوجي العزيز، فقد اعتدت أن أنام هنا، سأخرج في ال.."، "لا تتكلمي أرجوك"، ودخل معها في "الكَـبـَتْ"، ضحكا كثيرا، وفجأة بكت هنادي وأطلقت كبتها الذي كانت تحمله في جعبتها طيلة أيام حياتها، سكت عريسها وتركها تفرغ ما بداخلها من مشاعر وأنين، ثم ضمها بقوة وقال " أعدك أن أعوض سنينك المرّة معي، ولن تندمي بأنكِ اخترتيني"، "والآن هيا أيتها الطفلة الشقية تعالي لنخرج لتري أن العالم أوسع من مجرد -كَـبـَتْ-"، خرجت هنادي وأقسمت ألا تعود إلى الدخول في هذا المكان الضيّق المزعج الذي يعيد لها ذكرياتها الأليمة.