تحليق برجلين على الأرض

إلى مدينة جيجل و أشجار الزيتون

إلى عائلتي و منبع أصلي

إلى جدتي جعل الله مثواكِ الجنة

وإلى أخي فاتح

تحليق برجلين على الأرض

في ذلك الفضاء الرطب، اختلطت إرهاصات السهاد الحلو مع أنفاسي الهاربة من تجاويف جسمي المنبسط على سريري المدجج بغطائين ثقيلين، أقبض عليهما بإحكام، لا يُرى من ذلك الصرح الذي بنيته لنفسي ، سوى وجهي المبتسم بهلال قابع تحت رحمة ضلعي وجنتي، فيتمدد و ينحصر و الحدقتان تزدادان توسعا مع ظلمة الليل الحالك و غبطة انتظار اليوم القادم أما فتحات أنفي فلازالت تزفر دفئا تعلمني عن حالة فؤادي المنقبض المنشرح

كانت الساعة الحائطية المعلقة بالحائط المجانب لسريري تناور قلبي في دقاتها تك تك تك تك و تقلق سكينة أفكاري الآملة بغد طري يانع

مرت اللحظة بساعات ، و أنا أنتظر تسلل الفجر عبر شقوق النافذة لكن الشيخ الهرم كان يجر أذياله ليصل إلى الجزء الآخر من الأرض و يسود فيه و يفتح الطريق ببطء لذلك الشاب المتردد في وصوله لمغازلة عينيّ بإشعاعات شمسه الفاترة المستحية خلف السحب السوداء

علقت معطف قلقي الدائم من أي خطوة للقاء جديد ينتظرني في الأفق و أرفقت غبطتي بهدوء ترقرق عبر أوردتي ليسكِّن قلبي المحموم . فموعد اليوم كان لقاءا لحبيب تعرفت عليه معرفة سطحية و حان الأوان لأسكن قلبه

ودعتها و ـأنا أحدق في ثنايا تضاريس وجهها المشع، لم أكتفِ بنظرة، بل قلبت كل زواياها، و قبّلت كل معالمها المشبعة بحبي لها

رافقني محمود بصوته الأجش، يكلم هذا و يضاحك تلك، تقاطعه أمي بصوتها الحاد لتعلن أن أُذني تهدرها نبرتها المميزة و ثقل كلماتها الناضجة فأتعلق بسرعة للظفر بشيء من عقلها و يحاورها أبي فأغرق أكثر و أنسى أن محمود لم يتعب بعد من الكلام لكنهم أعقبوا حصته الإذاعية الصباحية بأغنية أحيتني من جديد اجتثت ذكرياتي من سباتها كانت الأغنية ذات همسات حيوية تتراقص على نغمة عشقتها في طفولتي الطائرة فدندنت معها

خدني لبلاد بعيدة خدني لدنيا جديدة

تعالي لبلاد بعيدة تعالي هناك

أنا و ياك

بعد ساعة من تخليفنا لمواقع و استقبالنا لأخرى و صلنا الطريق الأخطبوطي الذي أفسح أمامنا منعرجاته الصعبة وأظهر تلك الغابة المتشابكة الضارية التكوين ، بحفيفها الغاضب المصاحب للرياح الباردة فغابت بينها أمواج الإذاعة المحلية ، أنصتتُ للتراكيب الغريبة و أطلقت صوتي بعد مدة من ركوده في ظل التمعن في ما أخلب لبي من طبيعة آسرة

-هذه الغابة و صوت الإذاعة المضمحل كأننا في فيلم رعب

على الطريق أستنفذنا طاقات أعضائنا المتعطشة لسواقٍ طبيعيةٍ كالدرر المنثورة بين دفات وطننا و أخيرا لأول مرة وطئت بكل جوارحي المكان الموعود كانت قرية تظافرت منازلها وتنافرت أشكالها من طيني لأسمنتي لكن بساطتها تسبق كل رؤية

خرج العم قدور مرحبا بنا يسلم علينا و ينادي خالتي كهينة فخرجت و بنتاها لحوشهم المزرب أمام البيت و قامت بعناقي و أمي بحرارة كانت قبلاتهم تصفق بوجهي بقوة الواحدة فيهن تطبع ست إلى ثمانية قبل و قد تخطأ واحدة فيصبح العدد فرديا

دخلت البيت الصغير فكان يجلس هناك مترقبا الضيوف بطلته البهية و ابتسامته المغردة

علي هو اسمه ، تقدمت إليه و سلمنا تاركة عينان مشعتان تواردت للقاء عيونه الحية كنت في حال الرضيع الذي يضحك و هو وحيد في غرفته فنسأل لِم يضحك وحده فيجيبوننا إنه يضحك مع ملا ئكته ، تلك الشرارة من النظرة الأولى يمكنها أن تحدث ، أحببته و أحبني من لقائنا الأول

بدأت الفتاتان و أمهما بالحديث و السؤال عن أحوال الأهل في مدينتنا، كانت نغمة حديثهم بنكهة تحسس سامعها باختلاط الوصفات المارة على المنطقة منذ عقود غابرة تلك الكلمة المرددة على لسانهم "ديالنا" تقربهم للمغاربة رغم بعدهم عن المغرب الشقيق و لَكنتهم يطغى عليها الكاف الذي يعوض القاف في كلامهم مشابهة للكنة المرئية على التلفاز في مسلسل التغريبة الفلسطينية.

توافقت زيارتنا مع حلول العام الأمازيغي "يناير" فتذوقنا الأكلات المحلية الدسمة التي انتقلت من كسكسي بالسمك كشهرة المنطقة و فتات مفور و مسقي بصلصة الدجاج و الخضر. ابتعدت المنطقة قليلا عن الأهازيج الضخمة التي كانت تقام على شرف سنتهم الجديدة لكن موائدهم بقيت مزينة بما ورثوه جيلا عبر آخر عن أسلافهم.

أطبق النهار جفنه سريعا و غططت في نومة ثقيلة ما أفاقني منها سوى روائح طيبة امتدت مع بوادر الفجر بمسايرة نهاياتي الحسية الأنفية و الإيذان لي بالإستيقاظ فتململت قليلا في فراشي الدافئ و لممت الغطاء حولي و تقعدت لأرى عليا يغطي اللحاف نصف جسمه،و كن استيقظن جميعا

-صباح الخير يا ابنتي

-صباح الخير خالتي كهينة

دخلت أمه من فورها و أعادت عليه الغطاء ومسحت بيدها على شعره الناعم الأسود. نظرتُ إليه و تيقنت عدم نومه أحسسته شعر بالخجل مني و أنا أرى أمه تلفه بجناحيها و تغمره بحنان فائض . ابتسمت مراقبة جماله حتى بعينين مغمضتين و قلت لخالتي كهينة

-علي يشبه إيطالياً مشهورا أعرفه ..........تقاطر الخجل من بين وجنتيه الدافئتين اللتان تشعان وسط وجهه الأبيض

ضحكت المرأة و أخدت حديثي بمجمله لتقص لي ما روي عن عائلتي و تدخلني في درس صباحي عن نسبنا

تعلمين يا ابنتي أن اقتطاعنا لمعرفتنا نحن من يسموننا بالأميين كان عن طريق نقل الروايات و الحكايات التي يسمعنا إياها أجدادنا فتنتقل في الحبل كذلك الذي يسري بين الأم و جنينها فنتوارثه و نورثه و اعلمي أنه لولاها لما كتب التاريخ...و لن أجزم في قولي هذا إنما هو على قدر كبير من الصحة فاسمعي

يحكى أن جدنا الأول كان رومانيا أعجبته المنطقة فاستقر بها و يذكرون أن الجمال القبائلي الأمازيغي لبنات المنطقة جعله يتزوج إحداهن و ما كان لسيطرة إمبراطورية الروم من حكم في ذلك الزمن أخد أرضا و أسماها اسما مشابها لبلاده ايطاليانا ........... دخل الإسلام و بفضل الله أسلم و نحن الآن سليلته المتفرعة في هذه الأرض الخضراء و استشهدي بلقبنا الملاصق لنا منذ قرون و اسم المنطقة التي تحورت الآن الطيانا

سمعتها أمي و دخلت معقبة على حديثها

-أتذكر جيدا أمي رحمها الله و هي تقول لي و لـأخواتي و نحن صغيرات "إن جدكم خرج من البحر" فكنت أخاله وحشا إنسيا فأهلع خوفا من هذا الجد

فغمرتنا الضحكات و امتد فيضها إلى زينب و فاطمة فهرعتا تطالبان بحقهما، أما حبيبي فبقي على حاله حتى أنه لم يزعزع يديه من مكانهما و يغطي وجهه

على مائدة الفطور اجتمع حليب البقر ،زيت الزيتون ، مطلوع ، طمينة بالتمر و المقفول، كل مايشتهيه قلبي من أذواق طبيعية ألفتها بفضل جدتي رحمها الله ، كانت السيدة الطاوس تغمس الأكل بيديها المليئة بتشققات دُبغت سوادا من صبغة الزيتون الذي تجمعه من عملها بأشجاره المعمرة. ـأما ابنتاها فكانت أيديهما مطموسة بحناء يوم البارحة.

تحت ظل السماء الميتة ، جلست أرقب حوشهم و أرجاء محيطهم الأخضر بينما اجتمعن يحضرن وليمة دسمة أخرى أصابتني روائحها بغثيان فما عادت معدتي تستطيع استقبال الأكلات الثقيلة ، ففتحت النافذة لتعبر بعض النسمات الباردة

دجاجات و ديك معتد بنفسه يحومون في الحوش ، أشجار الزيتون الكثيفة في الجهة الغربية و تل أخضر مسطح من الجهة المقابلة تقف عليه بعض الأشجار المتموسقة أما عن بعد فغازات مطاحن الزيتون المتدفقة تشكل غمامات تزيد السماء اختناقا . سكين اخترقني فجأة كانت نظرة علي الحادة و أنا التي لم ألحظ وجوده في الصالة. ارتبك و خبأ شيئا خلف كرسيه مبتسما قائلا

-ديكنا إسمه مسعود أ رأيته يتمتع بشهرة أمام أبناء جنسه

ابتسمت و أشحت بناظريّ عنه تاركة له الفسحة ليملأ عينيه بحرية و يرمم ما بدأه ، كنت أراقب الطبيعة و هو يراقبني



انعدم اليوم كمن سبقه و أفقت على صياح مسعود الذي قام بإنذارات كاذبة طوال الليل يعلن فيها عن وصول الفجر ، ضايقني صياحه المتكرر حتى بت أفكر في اسم له ، فأسميته مسعود المصاب بالعمى النهاري بما أن تحديده لطلوع الشمس كان خاطئا.



لزمتني القوة لأقوم بجولة مع علي ، ما اعتقدت يوما أن قيادة كرسي متحرك لفتى ذي أربعة عشر سنة ستكون بدرجة الصعوبة التي أغللت يداي فترة من الزمن ..، علي كان مصابا بمرض العظام الزجاجية في رجليه منذ الولادة

من بين لقاءاتنا لوجوه الناس المبتسمة المتطلعة في الزائرة الجديدة ،ابتسمت لمصادفتنا شيخا مشرئبة عنقه، ينام وقت القيلولة على عصاه المثبتة على الأرض مجاورا لزيتونة .كان ظهره المعقوف مع العصا يعطيه توازنا غريبا . لوحة فنية بتمازجه مع الزيتونة، كل شيء فيه، يمتد من العمر و سحنته السمراء حتى تفاصيل ملامحه المتخندقة المشابهة للحاء الزيتونة المتشقق

أخبرني علي أنها عادة عمي إيدير النوم قرب الزيتونة حينما تطل الشمس

و في عمق القرية، عند بؤرة نظري ارتشقت عيناي بالجبل الأسود بقبته الثلجية البيضاء كالسكر المذرور عليه معانقا سحب البخار المتصاعد و في خصره ترتطم أمواج الأزرق الهائج مخلفة وراءها زبدا يذوب على الصخور الحادة ، دغدغنتني تلك القوة الناعمة فتُهت فيها و بقيت عيناي تحلقان