التوأم
ألقى بآخر قارورة كانت بين أنامله ثم بصق خلفها ثم أدار ظهره مودعا هذا المظهر المشين.دلف الى داخل بيته فتأمل رتابة بيته و نظافته و شدة نقائه من كل دنس ثم التفت الى حاله فاشتم رائحة كريهة منبثقة منه .
خاطب نفسه قائلا"لم يبق سوى التخلص من براثين هذه الرائحة الكريهة بالماء و الصابون.....علي أن أسرع قبل بداية صلاة الظهر"أسرع الخطى الى الحمام مترنما ثم أنشد:
_ قد شاب رأسي و رأس الدهر لم يشب ان الحريص على الدنيا لفي تعب
تعطر و خرج من المنزل سيرا و الى المسجد قصدا.دخل المسجد .العيون ترمقه بنظرات احتقار و الأفواه ترشقه بعبرات النميمة ,نظر اليهم و خاطب نفسه "اجلس حيث يؤخذ بيدك و تبر و لا تجلس أين يؤخذ برجلك و تجر".حاول التريث و التخفيف من حدة غضبه فخاطبها مهدئا "أستغفر الله استعمل الصبر تجني بعده العسلا و لازم الباب حتى تبلغ أملا"
الا أنه فوجئ بصراخ أحد المصلين وهو يقول:
_ "جوهر" هذا مسجد...أسمعت و الآن وقت صلاة ...ان أنت تفقه ما أقول فالباب بجانب ....بدون مطرود
ود و لو أنه استطاع تفكيك أعضاء جسده و سد أذنيه بما يكره سماعه الا أنه احترم قداسة هذا المكان و صب هم غضبه في بيت من الشعر
"احفظ لسانك يا انسان لا يلدغنك انه ثعبان "
نظر اليه ثم قال بلطف:
_أعرف ,هذه المرة غير المرة السابقة.
بانت نظرات الدهشة على عيون الحاضرين و تعالت الهمسات المتراشقة هنا و هناك و المارة بين أذني جوهر "أستغفر الله " "سبحان الله مغير الأحوال" "سبحان الله"
طأطأ المسكين رأسه ثم انسل بين المصلين متقدما الى الصف الأول وراء الامام بعد أن أقيمت الصلاة.
بعد الصلاة أمسكه الامام بلطف من ذراعه ثم قال:
_ سمعت مضايقاتهم لك, أحسنت الصنع في تجاهلهم , و الله يا ابني لا تدري كم أنا سعيد لهذه الخطوة الجريئة التي أقدمت عليها...أما هؤلاء فلا تكترث لأقوالهم و امض في سبيلك قدما..أنت تدري أنه من الصعب على الناس أن تنسى ،و ما فعلته لم يكن بالقليل و ارضاء الناس غاية لا تدرك..تذكر دائما طرفة جحا و ابنه و حماره التي لاكتها ألسن أجدادنا و كادت أمعاؤنا تتمزق ضحكا كلما سمعناها
_شكرا لك ,أنت الوحيد الذي فهمني
_ ربنا يغفر لك و يغفر لنا و لجميع المسلمين
"جوهر" كهل ناصف الأربعينات , أستاذ تعليم عال,مثقف,واسع العلم و الثقافة,يعشق أبا نواس ,يكره تزهد أبي العتاهية,عشق أبا نواس الى حد أنه لبس عمامته.أما اليوم ألقى بديوان أبي نواس بعد أن أتمه و لاكه لسانه طيلة العشرين سنة الماضية ,ألقى بديوان أبي نواس بعد أن قرأه بيتا بيتا, اليوم فتح ديوان أبي العتاهية المتزهد , سن الأربعين سن مناسبة لاعلان عريضة التوبة حسب رأيه .تمتع بحياة رغيدة متنقلا بين خمارة و أخرى أمضى شبابه بين حلبات الرقص و بين أحضان الفتيات,فتوة قضاها بين كأس و فراش و قمار.جال العالم ممتعا بصره و جسده بشهوات الدنيا المعروضة,و اليوم وقف متذكرا سيرة حياته فعثر على رجل سكير صعلوك حمل ثقافة افتقرها العديد و ماذا فعل بهذه الثقافة درسها لتلاميذ معضمهم لا يفقهها, أأورث علما لابن كان له؟أله ابن لقنه مبادئه النبيلة ؟أله زوجة يعلمها مبادئ الحياة ؟أله زوجة ساومته حمل عبء هذه الحياة ؟أله حياة عائلية تدفئ هذا البيت البارد؟أله روح في هذا البيت؟
لا ,بيت بلا زوجة كجسد بلا روح,بيت بلا أطفال تعبث في الأرجاء كشجرة جرداء.أسيواصل عبثه و مجونه ؟و ماذا سيستفيد من هذا؟مذلة لنفسه؟وهو لن ينس أبدا تلك المذلة التي سببها في حق المسجد و التي كرهه المصلون بسببها,ذات ليلة أفرط في الشرب و عاد يترنح يمنة و يسرة في ساعة فجر و بما أن المسجد يتموقع قبالة داره أخطأ الهدف و اتكأ على الحصيرة داخل المسجد مما أثار غضب المصلين فحملوه كرها و ألقوا به في قارعة الطريق.
بالرغم من أنه أحس بأن ما يقوم به هو الصواب و أنه صادق في توبته الا أنه لا يزال يخشى من سماع ذاك السؤال"شبابك فيما أفنيته؟" أسيقول أن شبابه افناه رفقة منى و سهى و ضحى و دعا و تلك التي لا يذكر حتى اسمها.لا حول و لا قوة الا بالله .لم يبق الا حل واحد" الحج" فمن حج حجة صادقة عاد كما ولدته أمه.
الندم لم يكن كافيا ووقت التوبة قد حان,صعد الى الطابق العلوي و بعد جولة قصيرة عبر الأنترنات اقتلع أول تذكرة لمكة و ذلك غذا على الساعة العاشرة صباحا وبينما كان في انشغال اذ بالجرس يقرع نزل مسرعا ليجد زوج أخته و نديمه يدعوه الى سهرة ماجنة كعادتهما الا أنه تمنع و أعلمه بما قرر فقال له:
_ اذا فعلت ما قررته بالأمس
_ نعم و حان الوقت لتسلك طريقي
_ هاهاهاها..تعالت قهقهاته ثم أضاف,لا يزال الوقت مبكرا على هذا الكلام لازالت نفسي متشوقة الى طعم كأس الحياة
_ربنا يهديك على كل سأمر عليكم بعد ساعة لأودعكم قبل ذهابي الى الحج غدا
_ بهذه السرعة,مرحبا بك على كل حال.
استيقظ باكرا صلى الفجر و انشغل في الحديث عن طريق الأنترنات مع رفقة من أصحابه و تلامذته فانشغل الى أن نسي نفسه بين عذوبة كلمات الوداع الى أن تفطن أنها التاسعة صباحا,انتفض كالمجنون فحمل حقائبه و أسرع الخطى نحو المطار.
كانت جيهان في المطبخ تجهز الغداء الا أن انتفظت مفزوعة على صوت طرقات كطلقات الرصاص فوق باب المنزل ,و لما فتح الزوج الباب وجد شرطيا حاملا رزمة من الأوراق
_ أهذا منزل السيدة جيهان شقيقة الأستاذ جوهر
_ نعم أنا هي
_ نأسف على ابلاغك بأن شقيقك توفي اثر حادث سير قبيل ساعة و...
نزل الخبر كالصاعقة في نفس المرأة أحست و كأن كابوسا ما يراودها و لولا لطمات زوجها المنهالة عليها لتاهت في دوامة النسيان,و بين تلك اللحظات تقدم رجل الى داخل المنزل وقال:
_ منزل السيدة جيهان؟
_نعم تفضل
نظر الى اشرطي و قال:
_أنا زميل جوهر و طلب مني البارحة القدوم الى أخته الحاملة لمفاتيح منزله و الطلب منها حملني الى مكتبه لأخذ بعض الوثائق,لكن أظن انني أتيت في وقت غير مناسب؟
_ لا تفضل معنا,سيدي الشرطي نشكرك على مجهودك نصف ساعة و نكون في المستشفى
خرجت رفقته و رفقة زوجها و أ علموه بمصير جوهر,لم يكن سالم زوجها أقل حزنا على صديقه من زوجته و كان طيلة الطريق يرثي صديق الطفولة معددا محاسنه ثم أضاف:
_نصحني بالعدول عن تصرفاتي ، المسكين كان يبحث عن مصلحتي لا حول الله اللهم اني تبت و طلبت غفرانك ,ارحمني يا الله غدا سأبحث عن تذكرة للحج و سأهدي خليلي عمرة كان سيقوم بها يارب اني تبت تبت..
وصلوا الى المنزل,جلست على الأريكة لتريح جسدها هول المصيبة,قصد الزميل المكتب ليفتش بين الكتب,أما الزوج فقد انسل الى الطابق العلوي متتبعا أصواتا غريبة منبثقة من الغرفة العليا. اتصال عبر الانترنات وضع السماعات و فتح الفيديو,يا الاهي انه جوهر يرتدي لباس الاحرام شلت يداه و ثقل لسانه ثم قال:
_أأأأأأأأأأأأأأأألو.و..وو
_مرحبا يا عزيزي كيف حالك ؟اشتقت اليك كثيرا و أنا أحس بقرب موعد اللقاء
_مممممماذا؟من من من ....من أنت؟
_أنسيت وجهي ، المسافة بعيدة و لكن هذا لا يعني نسيان وجهي بسرعة انسيت ان وجهي لاصقك طول حياتك على كل حال أعلمتني جيهان بأنك تبت و نويت الحج مرحبا بك يا أخي بين أحضان النعيم لو تدري ما أروع لقاء المولى عز و جل الله غفور رحيم وسعت رحمته كل شيء أنا بانتظارك أسرع في القدوم و لا تتمهل و لا تتكاسل الناس هنا وجوههم ضاحكة مستبشرة سعيدة بهذا اليوم العظيم , الجو حار قليلا ,تخفيف من الذنوب,أنا بانتظارك يا أعز الناس الى جنة لا تظاهيها جنة
انتفظت جيهان على صوت صراخ زوجها أسرعت الى الطابق الأعلى و الزميل وراءها فهالها ما رأت,زوجها ملقى على الأرض اصفرار عم جسده ,عيناه لم تفارقا الشاشة,سبابته ترتعش و تشير الى الشاشة
_ مابك,تساءلت الزوجة
_اااااانه أخوك....روحه تكلمني و تدعوني الى الموت....طمأنني عن نفسه و أخبرني انه في الجنة و أنه يزور الجحيم بين الفينة و الأخرى لتخفيف الذنوب .لا.لا...لا أريد الموت
نظر الزميل الى الشاشة مفزوعا فخر مغشيا عليه و لما اقتربت جيهان من الحاسوب أمسكت بالسماعة و قالت:
_ يا لك من غف أنسيت أن لجوهر توأم....المسكين لم يدر بموته ...أخبرته الأمس بأنه قادم اليه.