بسم الله الرحمن الرحيم , و به نستعين
اكتب لكم اليوم ثاني قصة لي , او ثاني عمل انشره علي صفحات هذا المنتدي , ارجو ان تنال قصتي هذه المرة استحسان الجميع و بأنتظار ردودكم و تقيمكم و مناقشتكم للقصة , علما بأن احداث القصة حقيقية و حدثت و تحدث كل يوم في مجتمعاتنا العربية ..
تحرك نحو ابواب حارته , كان الطريق خال تمام من المارة او العابرين , كان يجد هذا الصبي لذته في الصباح قبل الذهاب الي عمله في مشاهدة الجميع اثناء ذهابهم الي العمل , فكان جل شئ تقريبا يبدو واضحا , فهناك هذه من تتحرك التي ترتدي العباءة السوداء و يظهر جيدا كل ما تكبدته من عناء لتخرج علي هذه الصورة البهية , كان يعرفهم الصبي علي الفور و يستنتج ما تخفيه تحت هذه العباءة من ملابس سيتم تبديلها مع اول منعطف عند الخروج من الحارة , اما هذا الذي يرتدي هذه البذلة المهترئة من جميع جوانبها و يحاول بشتي السبل ان يخفي ما بها من عيوب هو الاخر , حتي يكون لائقا في عمله هذا الذي لا يمكن بكل حال من الاحوال ان يتخطي مرتبه المئتان جنيه , كان كل من في هذا الطريق يخفي شيئا , فهذه تخفي عملها و هذا يخفي رداءه , اما هو كان يسير بكل قوة و شموخ في طريقه , كان طفلا لا يكاد يتجاوز الاربع عشر عاما , ذاهبا الي عمله كصبي لنجار حارته , كان يتحرك كل يوم في الصباح الي هذا المكان المسمي " بعطية للنجارة " و ما العيب الذي قد اخفيه كهؤلاء الناس , فانا هنا لاصرف علي أل بيتي ولا اخشي شيئا , فانا مثال للرجل الطموح الذي خرج من بيته و في سنه هذه الي مكان هو الاخير الذي قد يفكر احد في سنه الذهاب نحوه .
دخل علي ابواب بيته , لم يكن يتوقع الكثير , لا أكل ولا رفاهية , لا شئ , مجرد بيت يأويه و سقف يحميه , حتي الأم فلن يجدها بجواره لتعطف او تحن او حتي ترأف بحاله , فالأم في مكانها , تتأوي علي السرير تارة و تنام تارة و تدعو الله بأن ينتشلها من هذا العذاب الذي تعيشه , بلغت امه عامها الخامس بعد الاربعون و بدأت تظهر عليها اولي علامات المرض , و لم يلبث ان عرف بعد ذلك بأصابتها بهذا المرض اللعين , فرثي الجميع لحالها , فدام مرضها و طال و عجزت عن الحراك حتي كان السرير هو مستقرها الاخير , انتظر زوجها أمر الله ليريحها من هذا العذاب , و يريحه هو الأخر , ففي البداية كان يعطي ابنه الاموال ليشتري دواءها علي مضض ثم بدأ يمتنع في اعطاءه المال حتي كان قراره الاخير بألا يصرف مليما علي شراء شيئا , فهجر البيت و طال هجرانه , حتي سمع الجميع بزواجه , و هللت الحارة بالعرس بينما كان الابن و اخته جالسين حول امهم متصنعين عدم الاكتراث .
نهض فجأة علي صراخ و بكاء اخته , فتحركت نحوه و اشاحت عن وجهه الفراش , لم يتبين لها كلام قالته و لكن الموقف لم يحتاج الي تفسير فتحرك نحو مضجع والدته , مسك يديها و قبلها فنظرت اليه و ابتسمت و قالت : ها انا ذا يا ولدي , قد امر الله اخيرا بأن يريحني من عذابي هذا الذي طال , اني لعاجزة عن الكلام معك , فالحياء يجتريني و الحزن يجتاحني فأنا اطلب منك الان ما من المفترض ان تطلبه انت منا , و لكنك لم تعد طفلا , لقد بت الأن رجل هذا البيت , اذهب لوالدك , فقد يأسف لحالك و اختك و يضمك في كنفه رأفة بحالكم , وصية امثالنا ليست في مال ولا عقار يورث و لا اشياء تخفف من عبء الموت , و لكنها تزيدكم بلاء و هم , فترأف بحال امك المريض , وصيتي اليك هي اختك , هذه المسكينة , تكلمت الأم كثيرا و لكن لم يسمع منها الصبي شيئا , فكان كلامها يغفو و ينهض علي ذكراه و كان قد تأقلم مع هذا الكلام و عرف بأنه ات لا محالة , و بينما كانت الأم تتكلم و الصبي يتصنع السماع و الطاعة , قضي الله بأمره و ماتت الأم , و غطي البيت بكاء و عويل الطفلة فتحرك نحوها الولد و نظر اليها ثم ضمها اليه بقوة .
تحرك الي رب عمله , كان خائفا مرتعشا يخشي العواقب , نظر اليه و طلب اليه بأن يأخذ اجازة لمدة اسبوع او اقل لحين انتهاء تشييع وفاة والدته , فنظر اليه رب عمله و قال له : هي امك ماتت ؟ , فأكتفي بهز رأسه , فرد قائلا : و عاوز اجازة كام يوم ؟ , شعر بنبرة حنان في كلامه فتشجع قائلا : حوالي اسبوع , فذهب الرجل الي مكتبه و فتح درجه و اخرج منه الة حاسبة , كانت هذه الألة هي اهم شئ لهذا الرجل فكان بها يحسب كل اعماله و مصروفاته و وارداته , كان هذا المحل قائما علي اعمال النجارة و بدون هذه الألة لأعتبر رب العمل بأن عمله لاغيا , فقام ببعض الحسابات و نظر الي الولد و قال له ان غبت لمدة اسبوع فسأخصم نصف مرتبك موافق ؟ , فقال الولد و هو يحاول ان يحبس دمعتيه : سأكون موجود بالغد ان شاء الله فرد الرجل في لحظتها : عفارم عليك , و بينما كان الولد يمضي تمتم بصوت غير مسموع , نصف مرتبي ؟ , و هل تحتاج هذه الة حاسبة ايها الابله .
عاد الي منزله , لم يكن يحب ان يذهب الي هذا المنزل منذ لحظة ان ماتت الأم , فهو يذهب الي هناك ساعيا في سرير يريحه من يومه الطويل المرهق , و لكنه لا يجد سريرا مريحا ولا بيتا مستقرا ليرتاح فيه , فمن اللحظة التي قرر الأب ان يعود مع زوجته الي المنزل , أصبح و بات البيت صاخبا , ملئ بالصراخ و العنف , فالمرأة لا تنكف مطالبة زوجها بطرد ولديه من البيت و الرجل يحاول بشتي الطرق ان يلينها قائلا بأنهم ليس لديهم مكان اخر للذهاب اليه و بأنه لا يمكن ان تذهب طفلة صغيرة الي الشارع هكذا , لم يكن الأب شريرا و انما كان سلبيا , او كان عقله تقريبا ذاهبا معظم الوقت , فما كان يتناوله او بمعني اصح يدمنه جعله عاجزا عن التفكير او اتخاذ قرار او اي شئ فكان مسير من قبل امرأته , دخل الولد الي البيت طامعا في لقمة هنيئة و سريرا يأويه و لكنه ما لم يلبث ان دخل الي البيت حتي وجد امرأة والده جالسة تأمر اخته الصغيرة بتنظيف جدران البيت التي كانت قد وسختها الطفلة بأقلام بريئة قبل ان يعرف البيت طريقه نحو الحزن , فتحرك الولد نحو اخته و مسك عنها ما تحمله و طلب اليها بأن تذهب لتنام , و اخذ هو في تنظيف جدران البيت متناسيا سريره الدافئ الذي كان يحلم به قبل لحظات .
كان الولد يسير كعادته نحو عمله في الصباح الباكر , كان قد نسي كل التفاصيل الحلوة في حياته , فالحزن و الكأبة كانت تسيطر حق سيطرة علي حياته , فلم يكن يتوقع اي خبر او نبأ جميل , فأصبح طفلا لا يكاد يبلغ اربع عشر عاما و لكن كأنه عاش دهر بأكمله , و يملك من الحكمة و الفطنة و الخبرة في شؤون الحياة ما لا يمتلكها احد في مثل سنه , كان يتساءل لماذا هذا العذاب , فهو لا يطلب الكثير , فأمه ماتت فقبل هذا و تزوج والده فلم ينقط من رحمة الله , و جاءت امرأة والده لتهينه و تجرحه هو و اخته بينما الأب في ملكوت اخر لا يشعر احد به ليجعل الكلمة الاولي و الاخيرة لزوجته في بيته , اي عذاب هذا و اي حياة تلك , و كيف له بأن ينفذ وصية امه , اه , اماه , امازلت تتذكر وصية امك , امازلت تتذكر اخر ما لفظته انفاس والدته و هي ترجوه بأن يخفف من شقاء اخته بعد مماتها , حقا انها كانت تعلم بأن موتها سوف يغير موازين كثيرة في حياة هذه الاسرة , و لكن علي من يستطيع ان يتسند الأن , و بينما كان يتساءل هذا السؤال تذكر بأنه لم يكن له يوما ظهرا يتسند عليه !
وصل إلي مكان عمله فوجد رب عمله هناك فهلل بوصوله قائلا : اخيرا وصلت ؟ , انا ذاهب لصلاة العصر خلي بالك من المكان , فهز الولد رأسه موافقا وتحرك الرجل نحو الصلاة , قام الولد ببعض الاعمال العالقة من ليلته الماضية , و بعد قليل من الوقت عاد الرجل الي مكان عمله , و بدأ يعمل قليلا ثم فتح درجه , فلم يجد الته الحاسبة , فهلع الرجل فنظر نحو هذا الطفل القابع في زاوية في المحل يقوم بأعمال النجارة , فقبض عليه من يديه قائلا : فين الالة الحاسبة ؟ , فأقسم الولد بأنه لا يدري عنها شيئا , فضربه الرجل , فتمسك الطفل بأقواله , فأنهال الرجل عليه ضربا , فخرت قوة الطفل , فبكي , كان يبكي علي كل شئ علي والده الضائع و امه المتوفاة و اخته البائسة و حالته المأساوية , لم يكن يبكي بسبب قوة الضرب بل كان يبكي علي كل شئ من حوله , لم يكن يحب هذه الحياة , كان يمقتها بكل جوارجه تمني من الله بأن يقبض روحه الأن و ان يخلصه من هذه الحياة التعسة , و لكن الضرب كان مبرحا و الألم كان قويا بدرجة لا تحتمل فقال الطفل : حسنا حسنا لقد سرقتها و خبأتها في بيتي , فنظر اليه الرجل شزرا و تحركا نحو بيته سويا و هو قابضا علي يديه خوفا من هروبه .
وصلوا اخيرا الي البيت فتح الوالد الباب فوجد ابنه و رب عمله امام عتبة بيته , فأنزعج من وجودهم سويا , و قبل ان ينطق رب عمله ببنت شفة صرخ الطفل : ابي , انه يضربني ظنا انني سرقت الالة الحاسبة , اقسم بالله بأني لا اعلم اين هي ولا اين ذهبت لقد قلت له انني سرقتها حتي اجدك و احتمي بك , فنظر الي الولد عاجزا عن الكلام فنظر نحو الرجل منتظرا تفسيرا لما يحدث : فقال رب عمل الطفل الي والده : لا شئ لا شئ , حسنا الان هناك بعض الاعمال العالقة سوف ننتهي منها و اعيده اليك الي البيت و جر الولد جرا مرة اخري نحو مكان العمل , بينما كان الطفل يصرخ مستنجدا اباه بأن يحميه من هذا الرجل قائلا بأنه ان عاد معه مرة اخري بأنه سوف يقتله , فأبتسم الوالد و قال له : اذهب يا بني لا تكن ابله انها مجرد الة حاسبة , اغلق الباب في وجه صرخات الطفل و استنجاده , و لحظتها اشد ما ولع صدر الطفل بأنه شعر بأنه ضعيفا و غير قادر علي حماية روحه , فما اشد وصيتك يا اماه .
ذهب مرة اخري الي مكان العمل فأغلق الرجل المحل , تفرغ للولد و انهال عليه ضربا , فهشم رأسه و لم يحتاج الولد لأكثر من عشر دقائق ليلفظ انفاسه الاخيرة خالفا وراءه هذه الحياة التعسة بكل ما فيها من مصائب , لم يحدث الكثير بعد ذلك , فالأب و رب العمل تصالحا مقابل مبلغ بسيط من المال , اشتري بها والد الفتي مخدرات ما اكفاه لمدة عشر ايام , تمتع بهذه المخدرات كثيرا و هو يدري في قرارة نفسه بأنه يحرق دخان او يتجرع من كان يوما ما مسمي بأبنه .
و سرعان ما زار الناس المقابر مرة اخري , ليدفنوا الولد بجوار امه , و مات الفتي قبل عيد مولده الخامس عشر بثلاث ايام , و قال الناس ليلتها ما يقولونه عند وفاة احد : إن لله و ان اليه راجعون , و نسيوه بعد ذلك للأبد .